نجاح عبدالله سليمان 

بالعودة إلى ثورة الخميني عام ١٩٧٩ كانت نسبة الشباب في إيران نحو 55 في المئة، واليوم تبلغ نسبة الشباب نحو 63 في المئة من الشعب الذي صبر 39 عاماً على حكم طبقة لا تزال تعيش في الماضي منفصلةً عن الواقع العالمي. فما جرى ويجري في إيران اليوم ليس فورة أو انتفاضة يمكن أن تهدأ بوعود، لأن الأسباب الدافعة إليها أعمق من تلك التي أدت إلى الثورة الخضراء عام 2009، إنما هي ثورة جوع، وصرخة العديد من الإيرانيين العاطلين عن العمل، والمحتجين على الغلاء وتفرد طبقة قليلة العدد بثروات البلاد، إضافة إلى بلايين تهدر في الخارج على مشروع تصدير الثورة.

لا تجـوز المقارنة بين التظاهرات الأخيرة وتلك التي شهدتها طهران عام 2009، ولا حتى ثورة 1979. فرغم أن تلك التظاهرات نجحت في استقطاب الملايين، مقابل الآلاف فقط في التظاهرات الحالية، فإن شعاراتها ظلت إصلاحية عموماً ولم تبلغ مستوى المطالبة برحيل ديكتاتور وإسقاط ولاية فقيه. عقب انتخاب الشعب لحسن روحاني، حاول وضع قناع معتدل، ولكن مع الوقت اكتشف الشعب الإيراني، وخلفه العالم، أنه لا يوجد في الحقيقة تياران أحدهما إصلاحي والثاني محافظ، فالاثنان من قطع رقعة شطرنج الخامنئي.

انقسم الجمهور كالعادة بين مؤيد للنظام الذي يقول إن هذه مجرد تظاهرات بسيطة لشؤون مطلبية اقتصادية فقط، وهو أمر غير صحيح، فالانفجار أتى نتيجة قرارات سياسية طويلة المدى، فطلبات المتظاهرين دليل على أن المشكلة في جوهرها سياسية وليست اقتصادية. ومع إعلان موازنة ٢٠١٨ التي تحمل زيادة مقدارها ٥٠ في المئة على أسعار الطاقة، سيرتفع التضخم إلى مستويات ستسبب مجاعة لـ٥٠ في المئة من الشعب الإيراني الذي يعيش تحت خط الفقر في دولة تملك كل أسباب الثراء. في الوقت ذاته ستشهد الموازنة للعام الثاني زيادة كبيرة في موازنة الحرس الثوري من ناحية والمؤسسات الثورية التابعة مباشرة لخامنئي من ناحية ثانية.

 

"امبراطورية" جديدة

الواقع أن النظام الجديد بدأ بناء إمبراطورية صفوية - مهدوية أعاد من خلالها نبش تاريخ الحروب والأحقاد القديمة وأعاد إنتـــاجها في العصر الحديـــث، لكن التغيــــير الذي حــــدث في طرائق التفكيــــر هو فقط في الانقلاب من الحداثـــة إلى الحـــروب المهدوية، أما طريقة إدارة الشأن الداخلي وخصوصاً الاستبداد بالشعب فلم تتغير، بل أخذت صوراً أكثر قسوة. هكذا سيطـــر الملالي والنظام الثوري على المال والسياسة والسلاح والإعلام، وسيطـــــر الخميني يومها على كل المؤسسات الحاكمة في البلاد، وحوّل الديموقراطية التي وعد بها إلى ميكانيكية لتبادل السلطة من يده اليمنى إلى يده اليسرى، فلا يمكن قبــــول أي مرشح انتخابات إلا إذا كان من المحسوبين على مرشد الثورة، وصودرت أموال المعارضين وأُسس حرس ثوري وجيش شعبي من ملايين المهووسين، هدفه حماية السلطة.

سبق لسياسات المواجهة مع الخارج والبرنامج النووي أن أفضت إلى عقوبات دولية شلت الاقتصاد الإيراني، وظن الملالي أن وجود باراك أوباما في البيت الأبيض سيثمر رفع عبء العقوبات عنهم، وأوحوا له بإمكان مساعدته في تحقيق إنجاز في سياسته الخارجية عبر تجميد البرنامج النووي لعقد من الزمان مقابل سكوته عن التمدد الاستراتيجي لإيران في دول الجوار في إطار السعي إلى إعادة بناء الإمبراطورية الصفوية، وهو ما حدث إلى حد بعيد، لكن جاءت الضربة الكبرى من دونالد ترامب، فسياسته المتشددة مع إيران منذ بداية عهده ورفضه المصادقة على التزام إيران بالاتفاق النووي والعقوبات الأميركية الجديدة وجهت رسالة واضحة ونهائية إلى الشعب الإيراني مفادها أنه لا أمل في العودة إلى الحياة الطبيعية بوجود هذا النظام.

 

انتشار الاضطرابات

بالانتقال إلى الاضطرابات، نجدها قد انتشرت من تبريز إلى أصفهان إلى بندر عباس ومدن أخرى في أرجاء البلاد. وهي تعكس بمحيطها الجغرافي وشعاراتها حالاً أعمق من التي يريد النظام الاعتراف بها، وأكثر تعقيداً من الكلام المبسّط لوزير الخارجية جواد ظريف الذي يلوم الخارج، سواء دول عربية أو غربية أو إسرائيل أو أي تنظيمات إرهابية. ووسط ذلك جاء الفقر يزحف على الأمة، إذ تسجّل في إيران نسبة بطالة مكشوفة تصل إلى ١٣ في المئة، وهي النسبة المعلنة، ولكن النسبة الحقيقية تفوق ذلك بكثير. أما البطالة المقنعة فأضعاف هذه النسبة، ووحدات الإنتاج الحكومية تعين في كل وظيفة واحدة ٤ إلى 5 موظفين بهدف امتصاص البطالة أملاً بتأجيل الانفجار، فأوجدت بذلك بطالة مقنعة هائلة الحجم أدت، إلى جانب الفساد والمحسوبية وضعف الإدارة، إلى انهيار كفاءة الوحدات الإنتاجية وتباطؤ عام في الاقتصاد.

من الصعب أن نتصوّر أن القيادة الإيرانية سيمكنها الاستمرار والتأقلم من دون تغييرات تواكب حاجات الناس وتعدّل السياسة الخارجية، وإذا لم تفعل سوف نشهد بداية النهاية للنظام في إيران وإن استغرقت العملية سنوات.

ما يحدث من انفجار شعبي في إيران ليس جديداً، فهو إعادة تأكيد لحقيقة غابت عن أذهان الحكومات القديمة عبر التاريخ، وهي أن الخبز أهم من الكلام. ما يحدث في إيران نتيجة طبيعية لتراكمات سياسية طويلة ولقرارات خاطئة وخطرة تجاهل النظام الشمولي نتائجها على شعبه على رغم تكرار توقع حدوثها.

يبدو أن صبر الشعب الإيراني نفد، ولم يعد قادراً على تحمّل حكم الملالي، ولم يعد كذلك مقتنعاً بأن الحل في أيدي الإصلاحيين، في ظل استمرار الفساد وارتفاع الأسعار وانعدام الإصلاح وتزايد الإنفاق على تصدير الثورة إلى الخارج وتمويل الحوثيين و «حزب الله» اللبناني والدور الذي يلعبه الحرس الثوري في سورية والعراق. لكن هذا ليس كافياً لإسقاط النظام. وهنا يبقى من المبكر التكهن بالمسارات التي سيتخذها هذا الحراك الشعبي المتعاظم، لأن من يعطي الخبز يُعطى الشرعية. ولعلّ ما بدأ في ٢٨ كانون الأول (ديسمبر) قد يستمر شهوراً أو سنوات قبل إحداث تغيير متكامل، إنما مسيرة التغيير بدأت وتحفّزها عوامل داخلية وإقليمية عدة، ولن يكتفي المواطن الإيراني بالبقاء على الهامش تكنولوجياً واقتصادياً واجتماعياً في بلاد غنية بثرواتها وتاريخها وحضارتها، فيما محيطه- على سبيل المثال- يستضيف شركات غوغل ومايكروسوفت وآبل وغيرها من القطاعات الرائدة تكنولوجياً.