سلطان البازعي 

عُرف عميد الصحافيين السعوديين الأستاذ خالد المالك بشجاعته في إبداء الرأي، وقد تجلت هذه الشجاعة حين أعلن في مقالة مؤثرة نشرت في صحيفة «الجزيرة» التي يترأسها، في 11 كانون الثاني (يناير)، أن الصحافة تواجه أوضاعاً «ربما هزَّت مستقبلها، إن لم يأتِ من يحنو عليها، ويقف موقف الداعم والمساند لها»، وبيّن المالك أن هذه الأزمة إنما نجمت عن انحسار الإعلان وهو المورد الرئيس للصحف التي اضطرت إلى ترشيد الإنفاق، بداية بتحجيم ما يصرف للقوى البشرية من صحافيين وكتاب، وانتهاءً بتقليص الصفحات وعدد النسخ المطبوعة وإغلاق المكاتب والاستغناء عن المراسلين.

ويرد في مقالة الأستاذ المالك هذا النص المؤثر، والذي أظن أنه يستدعي الكثير من الجدل والتحليل والدراسة، إذ يقول: «هناك حلول وخيارات، ولكن المؤسسات الصحافية لا تملك وحدها القدرة على أن تعالج الموقف الخطير الاستثنائي الذي تمر به الآن بعد أكثر من 50 عاماً على قيامها، وقد شهد الجميع بنجاحاتها المؤثّرة في خدمة الوطن الحبيب، هذه الحلول، وتلك الخيارات، أصبحت خارج سيطرة المؤسسات، وقدرتها على التعامل معها، إذ لم يبق أمامها الكثير من الوقت، والكثير من المال، للتصالح مع هذه المستجدات، هروباً من المستقبل الغامض». ويختم الأستاذ المالك، بصفته رئيساً لـ «هيئة الصحافيين»، بتوجيه مناشدة لخادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز ولولي عهده الأمير محمد بن سلمان بن عبدالعزيز، التدخل السريع «حتى لا تفقد المملكة مؤسسات صحافية عملاقة تم بناؤها وتطويرها لتؤدي رسالتها في خدمة البلاد على الوجه الأفضل والأحسن».

لن أناقش هنا وجاهة أو جدوى هذه المناشدة، فلا أظن أنه سيكون من المجدي، وفي هذا العصر أن تتدخل الدولة للحفاظ على مؤسسات كانت تعمل على أسس تجارية طوال خمسة عقود مستفيدة من الدعم الحكومي غير المباشر والمتمثل في الامتيازات الصادرة لهذه المؤسسات التي حمتها من المنافسة، ومن كثير من الدعم المعنوي وقليل من الدعم المادي الذي تمثل بالاشتراكات الحكومية (في مرحلة ما) وبقليل من الدعم المادي المشروط بنشر الإعلانات الحكومية وربما بالنقل المجاني على طائرات الخطوط السعودية، لكن معظم هذه المؤسسات الصحافية حققت مداخيل هائلة من الإعلانات في أجواء طفرة اقتصادية واستهلاكية غير مسبوقة، لكنها، أي هذه المؤسسات، فشلت في استشراف المستقبل ولم تقم بإعادة تدوير بعض هذه الأرباح في الاستثمار بتطوير المهنة وأدواتها وأولها العنصر البشري، بل إن كثيراً من قيادات هذه المؤسسات كان يعيش حالة إنكار مرضية حيال فكرة أفول عصر الصحافة الورقية، وكانوا يؤكدون أن عقوداً عدة ستمر قبل أن ينصرف الناس عن شراء الصحف الورقية.

وأظن أن المسألة برمتها تحتاج إلى مناقشة بعض المصطلحات التي وردت في مقالة الأستاذ خالد المالك، ففي رأيه أن المستقبل الغامض الذي يتهدد مستقبل الصحافة يتمثل في انحسار الإعلان عنها، وهذا صحيح لكن هذا الخطر لا يستهدف مهنة الصحافة بقدر ما يستهدف الصحافة المطبوعة، ولتبسيط المسألة للقراء فإن تحالفاً قام بين أصحاب المصالح التجارية وأصحاب الصحف في الأيام الأولى لظهور الصحافة المطبوعة بعيد اختراع مطبعة غوتنبرغ يتمثل في أن الإعلان سيمكن أصحاب الصحف من مضاعفة توزيع صحفهم مرات عدة حين ينخفض سعر بيع الصحيفة على القارئ الذي يتلقى الرسالة الإعلانية مجاورة للخبر والرأي والتحليل، فأصبح المعلن يتحمل الفرق في الكلفة في سبيل إيصال رسالته، وهكذا، فإن الصحيفة التي تباع بريالين في السوق قد تبلغ كلفتها الإنتاجية أكثر من 30 ريالاً بين قيمة محتوى وأجور وتكاليف طباعة وورق وتوزيع، وهذا النموذج العملي (Business Model) بدأ بالانهيار مع ظهور الإنترنت ووسائل نقل المعلومات الرقمية التي جذبت القارئ وقللت الكلفة على المعلن فاتجه إليها.

الأزمة عالمية وليست خاصة بنا، وربما تكون صحيفة كريستيان ساينس مونيتور الرصينة أول صحف العالم التي تعلن وقف طباعة نسختها اليومية والاكتفاء بالنسخة الإلكترونية ونسخة أسبوعية مطبوعة منذ عام 2009، وتبعتها في ذلك أسماء كبيرة في عالم الصحافة، منها مجلة نيوزويك الأسبوعية.

لكن التحول إلى النشر الإلكتروني استدعى الكثير من الابتكار الذي يتجاوز النشر في موقع إخباري، كما أنه يتجاوز نشر صور صفحات الصحيفة بصيغة «PDF» الجامدة، بخاصة مع ظهور الكثير من المواقع الإلكترونية الإخبارية التي حققت حضوراً مدهشاً في عالم الصحافة الجديد مثل هفينغتون بوست الذي بدأ عام 2005 بجهود فردية، حتى وصل إلى أن تشتريه شركة أميركا أون لاين من مؤسّسيه بمبلغ 315 مليون دولار عام 2011، وله نسخ تنشر بعدد كبير من لغات العالم منها العربية، والموقع الإلكتروني لمجلة نيوزويك ما زال ينشر التقارير المعمقة نفسها التي عرفت بها المجلة مع فرق أن التقرير تجري عليه تحديثات آنية بحسب تطور الأحداث، بما يعني أنها أصبحت أكثر ديناميكية.

أما صحيفة نيويورك تايمز فإن قصة تحولها إلى النشر الإلكتروني تستحق أن تكون موضع بحوث علمية وقصة تروى لكل المهتمين، فالصحيفة التي ما زالت تطبع نسختها الورقية وتنمو فإنها ابتكرت نسخة إلكترونية مطابقة للنسخة المطبوعة، لكنها ذات ميزات تفاعلية جذبت أعداداً أكبر من القراء والمعلنين على حد سواء، والأرقام التي أعلنتها الصحيفة في الربع الأول من 2017 تقول بأن الاشتراكات في النسخة الإلكترونية حققت أكثر من نصف دخل الصحيفة، وأن 308 آلاف مشترك جديد تم تسجيلهم في هذا الربع من العام، وأن إعلانات النسخة الإلكترونية زادت بنسبة 18.9 في المئة في مقابل انخفاض في إعلانات النسخة المطبوعة بنسبة 17.9 في المئة.

من المؤكد أن المقارنة بين حال المؤسسات الصحافية السعودية، والصحافة العربية ليست بأفضل حال منها، وهذه النماذج العالمية لن تكون عادلة، فالفروق الواضحة بينهما تكمن في عناصر المحتوى والابتكار ومواجهة الأزمات بالتغيير وبالتسويق الفعال والناجح، وهذه كلها تتحقق بالإدارة الرشيدة الواعية لحقائق ومتغيرات العصر.

وليسمح لي الأستاذ خالد المالك بالقول إن التدخل المنشود من الدولة لكي تكون الصحافة متوافقة مع طموحات رؤية 2030 سيكون بإعادة النظر في الامتيازات الممنوحة للمؤسسات الصحافية التي لا تستطيع إعادة اختراع نفسها للدخول في العصر الجديد.

ولنكن جميعاً على ثقة بأن الطباعة ربما تنتهي... لكن الصحافة لن تموت.