فـــؤاد مطـــر 

بعد الكردي الذي أصابه الخذلان في حالة من العودة إلى السفح بعدما كان قد خطا خطوة مهمة في طريقه المفروش بالتعقيدات إلى القمة، ها هو الفلسطيني يمنى بخذلان أشد إيلاماً على النفس ومِن العم سام نفسه. وفي الحالتيْن كان الطرفان المخذولان ضحية خاذل يصعب على المرء تفسير مقاصده.


هل إنه بخذلانه للصديق الحليف مسعود بارزاني كان يخشى أن يفقد المتبقي له من حضور وتأثير في العراق وبذلك تواصل إيران التمدد فيه؟ أم أنه في حال التسليم بمشروعية الاستفتاء الذي حقق نسبة عالية من القبول الكردي بالهدف منه، وهو انتقال الإقليم الشمالي من حالة الحُكْم الذاتي إلى الاستقلال وبكل ما تعنيه الكلمة من استحقاقات ومقومات هذا الانتقال، كان سيجد نفسه محرَجاً أشد الإحراج أمام الأطراف الدولية والعربية وبالذات الدول الصديقة ومعها السلطة الوطنية الفلسطينية، إذ كيف يجاز أن تكون له دولة مستقلة بينما يحرَّم على الفلسطيني هذا الحق؟
أم هل إنه في حال ارتضائه قيام دولة كردية مستقلة، سيترتب على ذلك دعْمها مالياً لكي تستقر وهو في وضْع مالي يقترب مؤشره من نقطة الخطر؟ وعلى هذا الأساس فإن سمعة الخذلان تبقى أقل وطأة عليه من إضافة الدولة الكردية المفترَض استيلادها إلى دول أُخرى صديقة باغتها العم سام بتجميد المساعدة لها مع اختلاف أنواع هذه المساعدات وموجباتها. ونقول ذلك على أساس أن ذرائع تجميد المساعدات أو تخفيضها أو تقتيرها كانت لا تليق بسمعة دولة عظمى. ولكنها الأزمة المالية، على ما تعكسه بعض الوقائع ومؤشرات الأسواق هي الدافع إلى سرد تبريرات وأحياناً تُهم قيلت في هذا الشأن، ومنها ما ورد على لسان الرئيس ترمب في حق باكستان، ثم في حق فلسطين التي أعطته من خلال سلطتها الوطنية أفضل ورقة تُعطى من طرف عربي، وتتساوى في أهميتها مع الورقة التي وضعها الرئيس أنور السادات بين يدي الرئيس جيمي كارتر فوظَّفها الأخير أسرع توظيف وبذلك أدرج اسمه في قائمة التاريخيين أو الاستثنائيين من رؤساء الولايات المتحدة منذ الحقبة الأميركية – الإسرائيلية – الفلسطينية، بدءاً بالرئيس هاري ترومان الذي كان الثالث والثلاثين في قائمة الرؤساء الذين تربعوا على كرسي المكتب البيضاوي.
ما يعنينا بالدرجة الأولى أن الرئيس ترمب بخذلانه السلطة الوطنية الفلسطينية، وذلك من خلال وعده يوم الأربعاء 6 ديسمبر (كانون الأول) 2017، المتمثل في اعترافه بـ«القدس عاصمة لإسرائيل»، تصرَّف مع الرئيس محمود عباس المدعوم عربياً وبالذات خليجياً ومصرياً وأردنياً، نقيض جيمي كارتر، وأنه فعل ذلك لأن موجودات الخزينة الأميركية لم تعد قادرة على المساعدات المالية السخية السنوية لإسرائيل، إضافة إلى المساعدات العسكرية والمساندات السياسية وأهمها على الإطلاق رفْع ورقة «الفيتو» عند التصويت على مشاريع قرارات لا ترتضيها إسرائيل. ومقابل عدم إمكانية الاستمرار في تقديم المساعدات يقدِّم ترمب وعده المستهجَن، وبذلك يضمن ولاية أُولى مرتاحاً نسبياً ما دام اللوبي الإسرائيلي في الولايات المتحدة ممتناً له، وربما يخفف من اضطرابات محتملة في الوضع المالي للدولة العظمى. وفي الوقت نفسه يستعمل ورقة الضغط على إيران لتهدئة دول المنطقة العربية، التي لا تواجه على النحو المطلوب صفقته الغريبة، مطمئناً، على نحو تقييم المستشارين إسرائيليي الهوى عموماً ومنهم صهره، إلى أن الجانب الفلسطيني لن يكون قادراً على أكثر من الاعتراض وإبداء الأسف. ومثل هذا الأمر يمكن احتواؤه بكلام معسول ووعْد بالمقابل لا نية لوضعه موضع التنفيذ.
ونحن عندما نفترض حالة توعُّك وإلى درجة احتمال الضمور في بند المساعدات الأميركية للدول الصديقة، نستند إلى مؤشرات من بينها أن ظاهرة السندات التي لطالما كانت العنصر الداعم للدولار ومن بينها، ولعل أهمها السندات العربية والسندات الصينية، لم تعد واثقة من مختزنيها، أي الصناديق الرسمية الأميركية، وأنّ نأي الإدارة وبالذات الحالية عن التعاطي بجدية من أجل حسْم قضايا عالقة من نوع القضية الفلسطينية إنما هو مؤشر إلى ذاك التوعك وذلك الضمور الذي نشير إليه.
قبل أن يباغت أكثرية العالم، المتعاطف منها مع الموضوع الفلسطيني أو المستغرب، هذا القفزُ للإدارة الأميركية فوق تفاهمات عربية - دولية محسومة بالنسبة إلى الموضوع الفلسطيني مع تفاوت في النظرة إلى الموضوع، بتعامله مع القدس وكأنما هي أحد مقتنيات البيت الأبيض، كان أهل القضية الفلسطينية التقوا في ثلاثة أرباع الطريق وبدا المتشدد منهم مرناً والسلطة الوطنية أكثر اعتدالاً، وقيل للإدارة الأميركية من الكلام داخل البيت الأبيض وفي دواوين كثيرين من الحكام العرب ما يُفترض أنه ورقة يتعامل معها الرئيس ترمب بأمانة بعيداً عن الخفة والاستهزاء بالآخرين، على نحو توصيفه لبعض أصحاب اللون الداكن بأنهم «حثالة»، ولم ينفع تبريره لهذا التوصيف، ثم جاءه الرد بأن صاحبة اللون الداكن الإعلامية الشهيرة أوبرا وينفري ستنافسه على الترشح، وتلقى من المؤيدين لها والغاضبين على تقلبات الرئيس الذي حارت البرية في أمره، ما يشجعها على خوض غمار معركة الرئاسة. وما الذي يمنع ما دامت ثرية مثله وصاحبة حضور إعلامي بمثل حضوره.
ما نريد قوله هو أن الرئيس ترمب أضاع على الشعب الفلسطيني فرصة أن تقوم الدولة المأمولة وعاصمتها القدس الشرقية في عهده، لكنه بما فعله لم يتصرف بما يؤكد حُسْن الظن به من جانب أطراف اعتبرت التحادث معه داخل البيت الأبيض وخارجه أنه تحادث مع رجل دولة، فإذا به يمارس التعاطي في قضايا ذات أهمية تاريخية ودينية كرجل أعمال. وعندما يرفض الجانب الفلسطيني استقبال نائب رئيس الولايات المتحدة ولا يحبذ الفلسطينيون، شعباً وسلطة وطنية، دور الولايات المتحدة كوسيط، ما دام هذا الموقف الذي اتخذه الرئيس ترمب لا يتبدل، فهذا في حد ذاته يؤكد أن الفلسطيني، كقضية، في حماية أكثرية دول العالم، وأن الطرف الأميركي الذي أراد عزل الفلسطيني وإلى درجة شطْبه بقرار اعتبار القدس عاصمة لإسرائيل، وعلى أساس أن مصادرة القدس تُسقط تلقائياً حُلم الدولة، هو المعزول... حتى إشعار آخر.