إيلي الحاج

يتحدث وزير الخارجية جبران باسيل عن تدخل سفارات في الانتخابات النيابية حازماً ومحذراً، وفي ذهنه سفير دولة إذا ما صدق ما تكتب صحف فريق "8 آذار" عن توجه سعودي إلى حمل الرئيس سعد الحريري على لم شمل الرفاق القدامى وخوض المعركة الانتخابية معها لمنع فوز "حزب الله" وحلفائه، فريق إيران في لبنان من وجهة نظر الرياض، فوزاً مبيناً يتيح له تغيير دستور ووجهه وقلبه وهويته.


استعاد رئيس "التيار الوطني الحر" هذا الكلام في فنيدق أخيراً خلال جولته الشمالية. وللمكان أهميته، فعكار هي البيئة المسلمة السُنّية الأوسع لطالما عُرفت بأنها خزان "تيار المستقبل" البشري، ولولا أزمة العلاقة بين المملكة العربية والحريري منذ استقالته الملتبسة في الرياض يوم 4 تشرين الثاني الماضي، لما كان ممكناً لباسيل أن ينهي كلمته هناك بهدوء على الأرجح.

يعود كلام وزير الخارجية إلى أصل عمره سنوات. باسيل الذي كان وزيراً للخارجية في 2014 توجه بعبارات من هذا النوع، على ما تروي لـ"النهار" مصادر خليجية، إلى السفير السعودي السابق في لبنان علي عواض عسيري، الذي شغل المنصب بين 2009 و2014. وكرر باسيل كلامه في مناسبات أخرى في حضور ديبلوماسيين خليجيين، لكنه فوجئ أخيراً بجواب استفهامي لم يعجبه. فحواه هل يقصد أنه يريد للمملكة أن تتوقف عن دعم لبنان مالياً واقتصادياً وسياسياً، خلافاً لما دأبت عليه منذ عقود، ولا سيما بعد انتهاء حروب لبنان؟

والحال أن في خلفية طلب باسيل خسارته الانتخابات النيابية على التوالي في 2005 و2009 نتيجة لاحتدام التنافس بين فريقي 8 و14 آذار سابقاً. تلك الأيام اندفع "حزب الله" لملء فراغ في السلطة ولّده انسحاب الجيش السوري من لبنان واستخباراته، علناً على الأقل، مما حتّم تقديم السعودية مساعدة مالية إلى حلفائها آنذاك كي يتمكنوا من الصمود، خصوصاً أن آلة القتل كانت تحصد قياداتهم واحدة تلو الأخرى. وكان المفترض أن تعلن طهران منذ تلك الحقبة سيطرتها على لبنان سياسياً من خلال الفوز بغالبية مجلس النواب، وليس عسكرياً فحسب عبر سلاح "حزب الله" وسطوته. أما "التحالف الرباعي" الذي انجر إليه فريق 14 آذار في 2005 ، تحت وهم أن في الإمكان حمل الحزب المذكور على تغليب لبنانيته والانضمام إلى بقية الشعب الذي صنع "انتفاضة الاستقلال"، فلم يفعل سوى تغليب "تسونامي" لوائح الجنرال ميشال عون في جبل لبنان المسيحي، معززاً في كل مكان بأصوات أنصار "حزب الله" وحلفائه!

بالطبع ، يقول متابعون بدقة لمسار العلاقة بين لبنان ودول الخليج، لو أن باسيل رئيس حزب وصل إلى السلطة بإرادة الشعب المعبّر عنها بصندوق الاقتراع، على غرار حزب المحافظين أو حزب العمال في بريطانيا، لكانت دعواته إلى السفراء في محلها. لكن القاصي والداني يعلم بأنه وصل بإرادة حزب مسلح يدأب على تعطيل العمليات الانتخابية حتى يرضخ له الآخرون ويحققوا رغباته. حزب يدأب قادته على الإعلان وبفخر أنهم يتلقون أموالهم ورواتبهم وتكاليفهم وأسلحتهم وصواريخهم من إيران. أقله هكذا تنظر دول الخليج إلى الوضع في لبنان – عن حق أو عن صواب موضوع آخر- ولذلك تخشى على بلد أخ صغير لم يخرج يوماً على مفاهيم الأخوة في علاقاته ببقية العرب، أن يتحول في شكل نهائي جرماً يدور في فلك إيران التي تدور حرب صامتة، ولكن شرسة بينها وبين العرب، بل شبه مباشرة في بعض الأمكنة على الخريطة العربية كاليمن والبحرين. أن يصير لبنان كله ضاحية جنوبية سياسياً وضع لا يمكن أن تتحمله دول الخليج. لعلّ هذا أكثر ما يقلق باسيل وفريقه النائيان عن "النأي بالنفس" في تحالفهما اللصيق بـ "حزب الله".

لكن النزال الذي لا مفر منه بين المنطقين لن يكون في البترون ودائرة الشمال المسيحية، حيث من الطبيعي أن يتركز اهتمام باسيل المباشر، بل في البيئة السُنّية المعرّضة لصيرورتها أرض تجاذب صعب ومفاجآت في الأيام والأسابيع الآتية. يدرك الأطراف المؤثرون فيها ذلك جميعاً ويحاولون ما امكنهم التكيف مع الظروف، ويفسر ذلك مواقف "تيار المستقبل" الحريص في التصدي، من خلال بياناته ومواقفه، للسياسيين ووسائل الإعلام التي تتهجم على السعودية والإمارات وبقية دول الخليج. وفي الوقت نفسه يعمم على كوادره أن حليفهم الإنتخابي في عموم الدوائر هو "التيار العوني". ينفتح على احتمال تفاهم يقضي بأن يخوض الانتخابات بالتحالف مع أحزاب وشخصيات شكلت "قوى 14 آذار" سابقاً"، لقاء دعم خليجي تتوّجُه زيارة تكريمية للرئيس الحريري إلى الرياض، وفي الوقت نفسه يشيع في أوساطه أن قطر مستعدة لتقديم الدعم المطلوب لخوضه الانتخابات بناء على مطلبين إيراني وتركي. تناقض يفسره المطلعون بأنه يندرج في إطار السعي إلى تحسين الشروط خلال التفاوض، وإن كان من يرمون الخبر في دواخل "التيار" يدركون استحالته، فمن جهة تكفي قطر مشاكلها مع جارتيها السعودية والإمارات، ومن جهة لا تقوى كتفان في بيروت على حمل هذا العبء، ولا مقاومة ثقل المملكة في شارع اعتاد تمثيله الرئيس الحريري وينحاز إليه عاطفياً، لكنه يتمنى لو يحمل مواقف الوزير السابق اللواء أشرف ريفي، ولا يحمله على التصويت لمن اعتادوا خصامهم وتشويه صورتهم ومقاصدهم.