ياسر الغسلان

الديمقراطيات ليست أشكال حكم بل روح حكم، وأميركا اليوم التي تبدو محكومة بنمط جديد على الجميع لا زالت في صلبها راسخة في مواجهة أي محاولة للسيطرة على الإعلامكان مستغربا بالنسبة لي أن فيلم «The Post» لم يفز بأي من جوائز الغولدن غلوب التي جرت الأسبوع الماضي، وهو الفيلم الذي يحكي قصة أحد أهم الإخفاقات السياسية في أميركا، وأحد أهم نجاحات الإعلام فيها، والتي كشفت تفاصيل دراسة عن وضع الجهد الحربي الأميركي في فيتنام، والتي طالب بإجرائها وزير الدفاع الأميركي «روبرت ماكنامارا»، الذي خدم كلا من الرئيس «جون كينيدي» و«ليندون جونسون»، والتي كشفت مقدار التشاؤم والاعتراف بعدم قدرة أميركا على الانتصار بتلك الحرب التي امتدت من 1961 إلى 1972، وهي الفضيحة التي قامت أولا صحيفة «نيويورك تايمز» بكشفها، ثم تولتها الـ«واشنطن بوست» بإكمال نشر تفاصيل صفحاتها الـ«سبعة آلاف» والتي عرفت فيما بعد بـ«أوراق البنتاغون». 


في عام 1976 شاهد العالم فيلم All the President›s Men والذي يحكي قصة الفضيحة التي أسقطت الرئيس «ريتشرد نيكسون»، وكان أبطالها أصحاب الكتاب الذي حمل اسم الفيلم، الصحفيين «كارل بيرنستين» و«بوب ودورد» من صحيفة واشنطن بوست، ورئيس تحرير الصحيفة «بن برادلي»، وناشرة الصحيفة «كاثرين غراهام»، وهي الفضيحة التي كشفت تورط نيكسون في التجسس على مكاتب الحزب الديمقراطي المنافس في مبنى ووترغيت أثناء حملة التجديد الانتخابية، وهي التفاصيل التي كشفتها تسجيلات تم نشرها ودفعت نيكسون للاستقالة والمحاكمة قبل أن يعفو عنه الرئيس «جيرالد فورد» بعد ذلك.
أعود لاستغرابي الذي بدأت به لأقول إن هوليوود اليوم كما هو معروف تصطف في مواجهة الرئيس ترمب، وإنتاج فيلم The Post، كما يقول الكثيرون هنا، هو تمهيد لإعادة شرعنة الإعلام بصفته السلطة الرابعة، خصوصا وأن الرئيس ترمب اليوم يعتبر الإعلام عدوه الأول، وهو أمر واضح لكل من يتابع صحفه وقنواته الرئيسة، والتي تنحو باتجاه اليسار باستثناء قناة فوكس التي تميل لليمين الموالي للرئيس، وعدم فوز الفيلم ربما يعود لرغبة صناع السينما في أميركا على عدم تحويل الفيلم لسلاح إعلامي مكشوف في حربه المقصودة على ترمب، أو ربما لتأجيل مواجهة الأوسكار الأكثر أهمية وثقلا على المستوى العالمي.


ليس مهما في تقديري عدم فوز الفيلم بل المهم هنا الرسائل التي يحاول إيصالها وإعادتها للواجهة، فعلى الرغم من أن الإعلام الأميركي لا يهاب المواجهة كما يبدو إلا أنه ربما يهاب تراخي المواطن الأميركي، ويريد أن يذكره بأوجه الشبه بين نيكسون وترمب، خصوصا في حملة اجترار مقولات الأول التي تتشابه في المضمون بمقولات الرئيس الحالي الأكثر إثارة للجدل في العصر الحديث، والأكثر عنصرية منذ الرئيس «ودرو ويلسون» وفق رأي مؤرخ الرئاسة «دوغلاس برنكلي».


في كتابه A Good Life يقول «بن برادلي» إنه حينما أوقفت النيويورك تايمز بأمر المحكمة استكمال نشر «أوراق البنتاغون» التي فجرتها أولا كنا أمام تحدٍ حقيقي من محامي الصحيفة ومجلس الإدارة، الذين تخوفوا من الدخول في حرب قضائيا مع نيكسون قد تدمر الصحيفة، خصوصا وأنه جند كل سلطاته الرئاسية في منع تفاقم الفضيحة، إلا أن برادلي يعترف بأن كشف الحقيقة هنا تطلب شجاعة من الناشرة «كاثرين غراهام» التي آمنت بأن التعديل الأول للدستور يكفل للإعلام حق التعبير، وأن دور الإعلام لم يكن في يوم الترويج لأجنحة الحكم في أميركا بل مراقبتها ومساءلتها وكشف تجاوزاتها، وأن الإعلام لديه مهمة مقدسة في تمثُّل مصالح المواطنين أولا وأخيرا، بصرف النظر عن المصالح التجارية أو الشخصية.
من طرفها قالت غراهام في كتابها A Personal History أنه لو لم يكن للواشنطن بوست صحفي بمهنية وحيادية «بن برادلي» لربما كان الأمر أصعب بالنسبة لي في أن أتخذ قرار المضي بنشر «أوراق البنتاغون» والمراهنة بخسارة كل شيء بمجرد الثقة في برادلي وإيماني باستقلالية القانون وسلطة الدستور.
في أوضح ديمقراطيات العالم العربي «لبنان» الفيلم منع من العرض وبذلك ينكشف لنا الكثير، فالديمقراطيات ليست أشكال حكم بل روح حكم، وأميركا اليوم التي تبدو محكومة بنمط جديد على الجميع لا زالت في صلبها راسخة في مواجهة أي محاولة للسيطرة على الإعلام، وإن كان ذلك من الرئيس، وعليه فالمواجهة التي اختزلها البعض في تجاذبات نشر كتاب «نار وغضب» الأخير ليست إلا نموذجا لما سيأتي، فالإعلام هنا لن يستكين كما يبدو حتى يرى نيكسون جديدا.