فوزية البكر

 يدور هذه الأيام نقاش صاخب في أروقتنا المحلية حول مصير الصحف الورقية في السعودية والتي تشهد اليوم منعطفات تمويلية حادة سببتها ظواهر كثيرة منها انخفاض الاشتراكات وانصراف المعلنيين واكتفاء الغالبية من الأجيال الجديدة (الذين كانوا في أزمنة سابقة يمثلون قراء المستقبل المحتملين) باستخدام النسخ الإلكترونية باعتبار أن جوالتهم محمولة معهم أينما كانوا ويستطيعون الوصول إلى أحدث الأخبار ومن هنا طرح النقاش عالياً: هل من مستقبل لهذه الصحف الورقية يبرر بقاءها ودعمها الذي تطالب به الصحف الحكومة اليوم لمساعدتها على تخطي عقبات المرحلة الحالية أم أن المستقبل هو لمصادر الأخبار من خلال منصات السوشل ميديا والصحافة الإلكترونية؟.

على الرغم من الصعوبات الحقيقية التي تطال الصحف الورقية في العالم كله واضطرار صحف عريقة مثل النيويورك تايمز والآبزرفر والإندبنت إلى إيقاف نسخها الورقية والتحول إلى الإلكترونية إلا أنها ما زالت قادرة على تحقيق بعض الأرباح من خلال استخدام تطبيقات إليكترونية متعددة مثل (البي وول) والذي لا يسمح للقارئ بتصفح أكثر من عدد محدد من المقالات ثم يطالبه بدفع الاشتراك إذا رغب في الاستمرار في تصفح النسخة الإلكترونية.

نأتي للصحف المحلية حيث يتجاذب الموضوع صوتان:

الأول: يؤكد لا محالة موت الصحافة الورقية بل يشيعها ببكائيات حادة ويدفن جهودها التي بدأت منذ خمسين عاماً مؤكداً انتقال الأجيال الجديدة لمنصات إلكرتونية جديدة بحثاً عن ما يحتاجونه من أخبار ومقالات وتحقيقات صحفية تأتيهم في لحظة عبر أجهزتهم الإلكترونية أينما كانوا لذا لا أحد منهم اليوم يقف عند بقالة ليشتري جريدة.

الثاني: يميز الفترات الحرجة التي تمر به الصحافة الورقية ويعيش معها نوستالجيا متوقعة يحاول فيها حماية الورق ليستمر لفترة أطول ويدعو إلى دعم المؤسسات الصحفية التي تعتبر الصوت الحكومي المقروء وهي التي عملت طوال تاريخها كمنصة رسمية تعزز قبول القرارات الحكومية لدي العامة كما أن أجيال كثيرة من رؤساء التحرير والصحفيين والمحللين وكتاب الرأي ناضلوا سنوات طويلة لدعم الثقافة والفن وحقوق المرأة والأقليات ... إلخ، وهو ينادي بالتمهل في النظر للتحديات الحاضرة وضرورة المعالجة التدريجية لها.

ما الذي يمكن أن نصل إليه بهذا الشأن؟

هناك تحديات حقيقية نلسمها جميعا بشأن الصحافة الورقية التي انخفضت نسب الاشتراك فيها إلى الحضيض لكن الكثير من الدراسات أيضاً تؤكد ضرورة النظر في المحتوى وليس فقط القالب الذي تصدر فيه الجريدة أذ كما يؤكد خوان سنيور أحد أبرز القيادات في مجال التطوير الإعلامي والأستاذ الزائر في جامعة إكسفورد أن ولادة منتج جديد لا يعني بالضرورة موت الآخر فوجود السينما لم يلغِ المسرح ووجود التلفزيون لم يلغِ الراديو ووسائط التواصل الاجتماعي مثل توتير والفيس بوك وجوجل هي محركات للبحث وليست صحافة، وهو يؤكد على ضرورة أن يحدث تغيير جذري في كيفية صناعة المحتوى بحيث تنتقل الصحف من صناعة الثرثرة (كل الصحفيين محللون وخبراء لنفس الأخبار) إلى صناعة رأي عام عبر استخدام التقنيات الجديدة وأحدث الأبحاث والدراسات لإعادة صناعة محتوى متطور يتعامل مع الكم الهائل من البيانات التي تجمعها الوسائط الإلكترونية بما يناسب عصر المعلومات الذي نعيشه ويستجيب للتغير الثقافي الذي تمر به أجيال الآي باد والجوالات. يجب أن لا ننسي أن الكثير من الصحف الإلكترونية تعتمد في مادتها في الغالب على ما ينشر في الصحافة الورقية لأنها أكثر ثقة ولأن القوانين التي تضبط ما ينشر فيها مكتوب ومدرب عليه كما أن المعلنين أحياناً يطلبون دلائل (مادية) يحفظونها في حال انهيار النظام الآلي لسبب ما خاصة مع الهجمات الإلكترونية العالمية علي كل الأصعدة.

تتطلب الفترة الحالية (وهي فترة إعادة الخلق والتأقلم) دعم الصحف المحلية مادياً ومعنوياً من قبل الدولة لتتمكن تدريجياً من تبني أساليب إدارية وتقنية تقلل مصاريفها بما يهيئها للدخول التدريجي لعالم التقنية الذي حطم الأسوار بين صانع الخبر ومتلقيه ومحلله وهو ما سيبقي أو سيعيد تقدير جرائدنا المحلية بتاريخها الطويل إلى عقل القارئ لكن حتى يتحقق ذلك يبدو ضرورياً جداً رفع سقف الحرية المتاحة (الحكومية) وتقليل عصا الرقابة لتتمكن الصحف المحلية في نسخها الإلكترونية الجديدة من موازاة بعض حريات العالم الإلكتروني الصاخب الذي ستضطر للتعايش معه.