علي القرني

 قرأت بكل ألم مقال الأستاذ خالد المالك رئيس مجلس إدارة هيئة الصحافيين السعوديين رئيس تحرير صحيفة الجزيرة، ومقاله كان باعتباره رئيسا لمجلس الهيئة ويمثل كل الصحف السعودية، وقبل أن أقرأ مقال المالك كنت قد قرأت أحوال الصحف السعودية وأعرف التطورات التي ستصل أو ربما ستصل إليها. ولمعرفتي بالكثير من القيادات الصحافية والمحررين والكتاب، كنت أعلم بحجم المعاناة المادية التي تواجهها صحافتنا من سنوات، ولكن كنت أيضا أشعر بحجم المكابرة لديهم، ومحاولاتهم المستمرة للنهوض بوضع الصحافة ومحاولتهم انتشالها من التردي الاقتصادي الذي عانت وتعاني منه، وكأنهم كما يقال: يموت الشجر واقف وظل الشجر ما مات.. هكذا كنت أراهم، وأنا منهم باعتباري مارست وعشت الصحافة ودرست ودرسّت الصحافة.

وبكل صراحة خلال السنوات الماضية كنت أراقب وضعية الصحافة في المجتمع، وكنت أشعر أنها وكأنها الابن غير الشرعي للمجتمع، رغم القوة الهائلة للتأثير الذي تقوم به الصحافة تحديدا في خدمة أهداف الدولة والمجتمع. وبنفس الوقت كنت أعلم علم اليقين أن التفاتة الدولة في عهد الملك سلمان بن عبدالعزيز وبنظرة سمو ولي العهد الأمير محمد بن سلمان -يحفطهما الله- ستأتي حتما، في ضوء رؤية المملكة 2030 التي تعمل على تقوية المؤسسات السعودية وتطويرها ووضعها على المسارات الصحيحة.

إن موضوع هيكلة أجهزة الإعلام ليس موضوعا جديدا فقد كتبت فيه كثيرا وقدمت فيه أوراقا علمية في مؤتمرات وملتقيات عديدة داخل المملكة وخارجها، كما سبق أن أشرت في أحد مؤلفاتي (الإعلام الجديد: من الصحافة التقليدية إلى صحافة المواطن) إلى الاتجاهات الحديثة في الصحافة الدولية وكتبت عن نماذج من الصحف الدولية التي لم تتراجع في توزيعها وظلت في الانتشار رغم ظروف الصحافة الورقية، ومن ذلك صحيفة يوريموري اليابانية التي توزيع يوميا حوالي 14 مليون نسخة، وهناك صحف أخرى تفوق العشرة ملايين نسخة في اليابان وغيرها من الدول، كما أشرت إلى أن الصحافة في الصين والهند وفي آسيا إجمالا تنمو فيها أرقام توزيع الصحف اليومية، بعكس الصحافة في أمريكا وأروبا.

وضمن الهيكلة التي سبق أن اقترحتها لصحافتنا كنت ولا زلت أرى أن ينشأ في المملكة مجلس أعلى للصحافة ويصبح هذا المجلس مستقلا ويشرف ويدير شؤون الصحافة، ويرأس المجلس شخصية وطنية مرموقة، ويكون المجلس بإمكانيات كبيرة للإشراف على كافة العمليات الإنتاجية للصحافة، وبالتالي يستقل المجلس بالصحافة من وزارة الثقافة والإعلام، إلا ربما من تمثيل وزير الإعلام أو وزارة الإعلام في المجلس. والمجالس الصحافية ليست جديدة ، فقد سبقتنا إليه كثير من دول متقدمة بعضها أسست مجالسها منذ أكثر من مائة عام، ولا زالت تعمل وتدير شؤون الصحافة، وتعتبر السويد أول دول العالم التي استحدثت مفهوم مجلس الصحافة press council. ولهذا فنرى أن تأسيس مجلس أعلى للصحافة أو حسب تنظيمات الدولة هيئة عليا للصحافة هو أمر مطلوب في المرحلة الحالية.

وحسب ظروف المجتمعات تختلف أهداف المجالس الصحافية في الدول، وهذا ما نريده أن يكون مجلسا بمواصفات «إنقاذ» للصحافة من أزمتها المالية التي تعاني منها في المرحلة الحالية، وأتمنى شخصيا أن يكون صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان رئيسا للمجلس، مع ممثلين تنفيذيين من بعض الجهات الحكومية ومن القطاعات الصحافية والقطاعات الأكاديمية المتصلة بالصحافة والإعلام، وبعض شخصيات المجتمع الثقافية.

وما تحتاجه الصحافة حاليا وكخطة إنقاذ لها هو حزمة من الدعم المادي الذي يمكن أن يجعلها تعيش وتستمر وتبقى، ونحن أبدا لا نريد أن تتوقف هذه الصحف لأنها صوت المواطن، وصوت الدولة، وصوت المجتمع.

ما هي الحزم المقترحة التي أتمنى أن تعمل عليها الدولة حاليا؟ هناك أفكار عديدة في هذا الخصوص، ومنها على سبيل المثال:

1- دعم مادي مباشر للصحف كمرحلة انتقالية لمدة عامين، حتى يمكن أن تعيد ترتيب أوضاعها المادية، ويجب أن نلاحظ أن الكثير من الكوادر الصحافية قد غادرت المؤسسات الصحافية، بسبب الضائقة المالية في كل صحيفة.

2- إعطاء الصحف امتيازات الإعلانات بدون قيود، وخاصة الإعلانات الحكومية التي حجبت في فترة من الفترات. كما ينبغي حث الجهات الحكومية على الإعلان في الصحف.

3- منح الصحف امتياز مجانية النقل عبر الخطوط السعودية أو غيرها من الخطوط الوطنية لإمكانية التوزيع الوطني للصحف، لأن كثيراً من الصحف سحبت نقاط توزيعها التي تكلفها مبالغ كبيرة نتيجة أسعار الشحن الباهضة، وهذا حال دون انتشار الصحف في مختلف مناطق المملكة في السنوات الأخيرة.

4- زيادة الاشتراكات الحكومية في الصحف، حيث انخفضت في السنوات الأخيرة، وإلزام هذه الجهات بالاشتراك في كل الصحف، مع زيادة الاشتراك في أربع صحف على الأقل.

5- إلزام الجامعات على الاشتراك في الصحف بكميات كبيرة لنشر ثقافة القراءة للطلاب والطالبات وإتاحتها يوميا لهم، وكذلك الاشتراك لكل عضو هيئة تدريس في صحيفة واحدة على الأقل.

6- إلزام وزارة التعليم بضرورة الاشتراك في أكثر من صحيفة وأكثر من نسخة لكل مدرسة ابتدائية أو متوسطة أو ثانوية.

هذا على مستوى دعم المؤسسات الصحافية، ولكن يجب أن ندرك أن هناك أدوارا متوقعة من المؤسسات الصحافية يجب أن تقوم بها في المقابل، وسبق أن ذكرت أن أحد الباحثين الأمريكيين (فيليب مايور meyer) قد توقع بأن الولايات المتحدة ستقذف بآخر نسخة من صحيفة ورقية عام 1441م، إذا لم تعيد الصحف النظر في وضعيتها وتتبنى نموذجا جديدا business model لإنقاذ نفسها. ولهذا أتمنى أن تسعى الصحف أيضا وتقوم بدور جديد من ذاتها في سبيل ترسيخ مكانتها في المجتمع. وهنا بعض الحزم التطويرية:

1- ضرورة إعادة هيكلة المضمون والشكل في الصحيفة، فمن الواضح جدا أن المضمون الحالي لا يرتقي إلى مستوى القارئ في ظل المنافسة الشديدة من قبل الإنترنت، ووسائل الإعلام الأخرى.

2- تدريب الكوادر الصحافية من جديد، والعمل معهم على الارتقاء بدرجة المهنية لديهم، ورفع هامش الحرية الصحافية في العمل الميداني، حيث تراخت هذه المهنية نتيجة خروج بعض الكوادر من الصحف من ناحية، ومن ناحية أخرى نتيجة الإحباط الموجود لدى الصحافيين القائمين بسبب عدم التحفيز وتقليص الرواتب الشهرية.

3- إعادة النظر في منظومة الكتاب في الصحف، فيجب أن تكون هناك معايير معينة يتم الاستناد عليها في الاختيار.

4- إجراء دراسات دورية على «انقرائية الصحف» readership للتعرف على ما يطلبه القراء وما ينبغي عمله لتوفير ما يقابل توجهاتهم في الصحف الورقية.

5- رغم أهمية التوجه الوطني لكل صحيفة، لكن يجب أن ترتبط كل صحيفة بمنطقة الصدور بتركيز أكبر على أخبارها المحلية، وربما تكون هناك طبعات حقيقية وليست شكلية، لاستقطاب جمهور محلي.

6- الاهتمام بالمواقع الإلكترونية للصحف وتطويرها وبث الحياة فيها من جديد.

وهناك أمور أخرى كثيرة يمكن أن تعمل عليها الصحف بعد أن تتأكد من استقرار وضعها الحالي، ودعمها سيهيئ لها انطلاقة جديدة نحو التطوير والانتشار في المستقبل. وهذا ما نتمناه.