رضوان السيد

عندما نتحدث عن الأولويات، يكون المقصود بها المصالح الضرورية التي يتوجه السياسيون والمفكرون والمهتمون بالعمل العام، للعمل عليها وعلى مستويين: مستوى العقلنة والاقتناع، ومستوى المناقشة والتحاور من أجل الوصول إلى توافقات أو إجماعات على المستوى الوطني والمستوى القومي.

وما تزال أولى الأولويات، كما كان عليه الأمر في الأعوام الثلاثة الماضية: الدولة الوطنية العربية، وكيف يمكن استنقاذها أو الدخول معها وبها في مرحلةٍ انتقاليةٍ، لإحلال الاستقرار من جهة، والتغيير التدريجي باتجاه أنظمةٍ للمشاركة والتنمية، والتي تقوّي الاستقرار، وتقوّي علائق الثقة بين الجمهور والسلطات.

إنّ هذا الملفّ يبقى على رأس الأولويات، لأنّ الدول المضطربة قسمان: قسم ما تزال الدولة فيه مهدَّدةً في وجودها، وقسم ما تزال الأنظمة فيه تتجه للخضوع لمحورٍ خارجي إمّا للاستعانة به في الإبقاء على النظام، أو لأنّ الفرقاء السياسيين الداخليين ذوو مصالح حاكمة مع الخارج. وينطبق الأمران أو بعضهما على ليبيا والعراق وسورية ولبنان. فهذه البلدان - إلى جانب تونس- جرت فيها محاولاتٌ للتغيير باتجاه ديمقراطية المشاركة. وجرت أقدم المحاولات (الشعبية) في لبنان قبل ما صار يُعرف بالربيع العربي. 

ولبنان اليوم ليس مهدَّداً في وجود الدولة فيه، لكنه يسير وبدفعٍ من الفرقاء السياسيين الرئيسيين للانضواء في المحور الإيراني. وبظنّ هؤلاء أنّ الخضوع لإيران يهب تمكناً في السلطة لأنّ حزب إيران المسلَّح يكون راضياً عليهم. أما ليبيا فيكاد وجود الدولة فيها أنّ يكون مهدَّداً بسبب الانقسام الجهوي: غرب (حكومة الوفاق)/ شرق (حكومة البرلمان). وتحت الغطاءين، وبخاصةٍ في غرب ليبيا، تنتشر عشرات الميليشيات المتأسلمة أو الجهوية؛ وهذا إلى معسكراتٍ لـ«القاعدة» و«داعش». وما ينطبق على ليبيا يكاد ينطبق على سورية. فالنظام يتجه لإخضاع ما تبقى من شعبه (بعد التهجير والهجرة والقتل) بقوة روسيا الاتحادية، والميليشيات الطائفية الإيرانية. لكنّ عدة أطراف وبينها روسيا تحذّر من تقسيم سوريا؛ وذلك لأنّ الأميركان أعلنوا عن إنشاء جيش كردي - عربي يشرفون عليه، والأتراك ينشئون جيشاً عربياً بشمال سورية أيضاً، وهم يشرفون عليه ويوجهونه لمصارعة الأكراد وجيشهم (!). وإذا أضفنا لذلك القواعد العسكرية الروسية والأميركية والإيرانية والتركية المنتشرة على الأرض السورية، أدركنا كم هو المأزق السوري عميق، ومتعدد الجوانب!

وإذا كان المأزق السوري أدنى في وضعية الدولة فيه إلى المأزق الليبي؛ فإنّ المأزق العراقي أدنى إلى المأزق اللبناني. لكنْ بعكس لبنان حيث انهارت جبهة 14 آذار الممانعة للإيرانيين ويتجه الجميع للخضوع؛ فإنّ العراقيين ما يزال بعضهم يصرح بمعارضة الاستيلاء الإيراني. لكنّ الشراهة في الصراع على السلطة والموارد، تضطر الجميع للتنافس على إرضاء إيران، لتبقى لهم حصة!
هل يبدو وضع تونس التي نجح فيها التغيير أفضل؟ ليس بكثير جداً. فهناك ملف الإرهاب الذي لم ينحلّ لوروده من ليبيا وغيرها، وهناك الملف الاجتماعي الذي يتفاقم يوماً بعد يوم. وجزء منه فقد الهيبة السلطوية، وتجرؤ الجميع على التظاهر والحملة على أهل السلطة والسلطان!

ووضْعُ اليمن غريب وسط زحام الاضطراب. فبمقتل علي عبد الله صالح على يد الحوثيين، ما عاد يمكن الحديث عن سلطة قديمة تريد العودة بشكلٍ أو بآخر. بل هناك ميليشيا مسلحة تدعمها إيران وتريد الاستيلاء على اليمن، وهي قلةٌ قليلةٌ، وذات دعاوى أسطورية. إنما من الراجح وهي تدنو للسقوط الآن، أن تخلِّف نزاعاتٍ وأحقاداً، لا يمكن استيعابها إلاّ في عدة عقود.
كيف يمكن العمل على الاستنقاذ في الدول المذكورة؟

هناك من يحاول ذلك بالنسبة لليبيا، لأنّ الدول المجاورة متضررةٌ من الاضطراب فيها. لكن كما في البلدان العربية الأخرى؛ فإنّ العرب منقسمون في ليبيا أيضاً، وكلٌّ يدعم طرفاً مختلفاً. وقد ترددتُ طويلاً بين الطرفين بسبب حضور شرعيتين: شرعية دولية، وأُخرى برلمانية منتخبة. لكن بعد حادث مطار طرابلس قبل أيام، والذي ذهب ضحيته العشرات في صراعٍ بين ميليشيتين إحداهما موالية لحكومة الوفاق (!)، صرتُ أميل لدعم حكومة البرلمان وحفتر لأنها ليس لها شريكٌ ميليشياوي!

ورغم السوء الشديد في الوضع الليبي، يظلَّ أسهل من الوضع السوري. وذلك بسبب الأطراف الخارجية الرئيسية المتدخلة: الإيرانيون والروس والأتراك، فلكلٍ من هؤلاء جيوش وميليشيات وقواعد على الأرض، ومسلحون سوريون تابعون لهم. وصحيح أنّ الدوليين والطليان تدخلوا في ليبيا ويتدخلون؛ لكنه صحيحٌ أيضاً أنّ مصر والجزائر وتونس جميعاً موجودة في الحلّ الليبي الممكن. أما في سورية فإنه ما عاد هناك طرفٌ عربيٌّ فاعلٌ حقاً حتى في نُصرة النظام! ولذلك (وهذه وجهة نظري الخاصة) سيكون الوصول إلى أي حلٍّ أكثر صعوبةً وإعاقة. ثم ماذا عن عودة المهجرين بالملايين، وعن إعادة الإعمار، وعن المناطق التي استقر فيها أجانب، والمناطق التي يحتلها الإيرانيون والأتراك والأميركان والروس؟! وكيف تتطور المسألة الكردية في سورية؟

إذا تأملنا قضية «ما بعد الاضطراب العربي» إذن، وأولوية استنقاذ «الدولة الوطنية العربية»، نجد أنّ اللازمة الضرورية لهذه الأولوية أو لإمكان الدخول فيها وعليها يتلخص في أمرين: التوافق العربي على مقاومة التدخل الخارجي العسكري والسياسي في شؤون الدول العربية المضطربة - والأمر الآخر: توافُقُ الحدّ الأدنى بأن لا يكون هناك انقسامٌ حول الوضع الداخلي في هذا البلد العربي - أو ذاك، بحيث يدفع ذلك باتجاه المزيد من الاضطراب، أو يحول دون التوصل إلى حلولٍ توافقية.

إنّ علينا أن ندرك أنّ الاضطراب الذي نشب بدواخل بعض الدول العربية، والعجز الداخلي والعربي عن تجاوزه، دفع باتجاه المزيد من التدخلات الأجنبية ومن خارج آليات النظام الدولي، وأهمّ الأطراف المتدخلة الإيرانيون والروس والأميركيون والأتراك، وليس في سورية فقط؛ بل وفي سائر بلدان الهشاشة والاضطراب. وينبغي أن يبقى ذلك هو الشغل الشاغل للسياسيين والمفكرين العرب في العام 2018.