عبدالله الزازان

لقد شكل الحوار الوطني - عبر ممارسات وتجارب فكرية طويلة - خبرات وتجارب عميقة وأقام قواعده على الوسطية والانفتاح في إطار الوحدة الوطنية وداخل إطار الكل الكبير الذي هو الوطن.

في السنوات السابقة قدر لي أن أتداخل مع مركز الملك عبدالعزيز للحوار الوطني تداخلًا نظريًا وفكريًا سواء من خلال مشاركاتي في مؤتمراته الفكرية أو نقاشاته أو حلقاته الحوارية.

لقد استن مركز الملك عبدالعزيز للحوار الوطني سياسة تتميز بأنها تعتبر المفكر أو المثقف شريكًا لا مجرد متلق ومن هنا كان حرص المركز على استقطاب الفئة المفكرة والنخبة الثقافية، فاستقطاب الفئة المفكرة والمثقفة يشكل مقياسًا من مقاييس الرقي والتحضر لأية مؤسسة أو هيئة كانت، فتقدم المؤسسات والمجتمعات لا يكون إلا بتكامل قواها.

وهذه المقاييس لا يجب أن تنحصر في الحوار الوطني فحسب بل يجب أن تتعداه إلى الهيئات الحكومية والمعاهد العليا والجامعات ومحافل العلماء والأدباء وقادة الفكر ومؤسسات التثقيف والإعلام.

وكما قال أحد المفكرين إن أية مؤسسة ناهضة لا يمكنها أن تحقق لأتباعها غير ما تكون حققته في ذاتها فلا تستطيع أن تشيع النور إذا لم تكن قد استنارت قبلًا ولا أن تبعث القدرة إذا لم تكن هذه القدرة قد انبعثت فيها أولًا فلا تحصل هذه الاستنارة ولا يتولد هذا الانبعاث عفوًا ولا يتأتيان هبة أو منحة بل هما نتاج اكتساب مضن وجهود جبارة.

إن من طبيعة المؤسسات أو المجتمعات الناهضة أن تكون منفتحة مقدمة على الجديد دون رهبة أو تردد أو انكماش وأن تؤمن بمقدرتها على الاختيار وأن تقارن وتفاضل وتنتقي ما تراه في مصلحتها.

فإن من أهم مقتضيات الحياة الصحيحة تكوين النظرة الحضارية الصحيحة وبلورة الخيار الحضاري الصحيح وجلاء المفاهيم وهذا لا يكون إلا باليقظة الحضارية لأن النظرة الحضارية الصحيحة تكشف الغايات والاتجاهات وما تحمله من صواب أو خطأ.

وإذا كان التنبه الحضاري عادة كل عصر وحالة كل زمان إلا أنه اليوم ومع أدوار التحولات السريعة والتغيرات العميقة لابد منه في عالم اليوم بوجه خاص.

ولذلك كان مركز الملك عبدالعزيز للحوار الوطني يقظًا ومتنبهًا لدوره الوطني ولم يتوقف عند حالة اليقظة والتنبه بل تعداها إلى الفكر والمنهج والفاعلية.

لقد شكل الحوار الوطني - عبر ممارسات وتجارب فكرية طويلة - خبرات وتجارب عميقة وأقام قواعده على الوسطية والانفتاح في إطار الوحدة الوطنية وداخل إطار الكل الكبير الذي هو الوطن وواجه مرحلة حافلة بالتغيرات المجتمعية والتحولات الإقليمية فأطلق مبادراته الفاعلة في حوار وطني واسع جمع الأشتات لاستيعاب تلك المتغيرات والتحولات وأقام أرضية خصبة للتحاور والتفاهم الجاد على أساس مرجعية وطنية وخطط إستراتيجية واضحة ومتكاملة تدفع نحو إعادة صياغة علاقات المجتمع على معايير وطنية.

فالمجتمع السعودي في أصوله الأولى مجتمع متوحد منسجم الوجدان أقام - عبر حقب طويلة - حوارًا سلميًا ومنسجمًا بين كياناته الثقافية والمذهبية والعرقية شكلت خصائص الشخصية السعودية فكانت الهوية الثقافية نتاج التنوع الاجتماعي والثقافي وقد تفتق عن هذا التنوع ثقافة واحدة موحدة.

ويثبت الواقع التاريخي أن فكرة الحوار الوطني التي دعا لها الملك فهد بن عبدالعزيز وتبناها الملك عبدالله بن عبدالعزيز وتبلورت عمليًا على يد الملك سلمان بن عبدالعزيز - حفظه الله - لم تكن مجرد وسيلة إلى غاية وإنما كانت دعوة أخلاقية في جوهرها تحمل رسالة هذا الوطن الكبير القائمة على أساس المنهاج الأخلاقي والفكر الحضاري والثوابت الدينية والإيمان الواعي بالحوار ليس فقط لتوضيح وجهات النظر وإنما كذلك للسعي الإيجابي لتأكيد الذات والعمل على بلورة الخيار الحضاري لأن الحوار هو الوسيلة المثلى لتحقيق الأهداف الوطنية.

[ فالحوار قضية إنسانية وأحد أهم احتياجات الإنسان المعاصر وهو شأن عام يهم جميع فئات المجتمع لتحقيق التواصل الإنساني الذي يوفر بيئة إيجابية لتبادل الخبرات والمعارف والمهارات بما يفضي إلى التفاهم والتعايش والتكامل في وقت تعاني فيه المجتمعات والحضارات من عزلة اجتماعية وشح في التواصل على الرغم من النهضة التكنولوجية التي يشهدها العالم في مجال الاتصال ].

ومركز الملك عبدالعزيز للحوار الوطني يرسخ ثقافة الحوار وينشرها في المجتمع بجميع فئاته بما يحقق المصلحة العامة ويحافظ على الوحدة الوطنية وذلك عن طريق توفير البيئة الملائمة لإشاعة ثقافة الحوار داخل المجتمع ومناقشة القضايا الوطنية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية والتربوية وطرحها من خلال قنوات الحوار الفكري وآلياته وتشجيع أفراد المجتمع ومؤسسات المجتمع المدني على الإسهام والمشاركة في الحوار الوطني.

فالحوار الوطني أقام علاقات واسعة وفتح قنوات اتصال مع مختلف شرائح وفئات وتيارات وأطياف ومؤسسات المجتمع تفضي إلى تآلف اجتماعي حقيقي وتأقلم وانسجام واندماج وتجانس داخلي وكرس وحدة المجتمع وأقام برامج حوارية وحلقات نقاش وورش تدريب تعلم ثقافة الحوار تستهدف تغيير القناعات والأفكار السالبة التي تقوم على ثقافة العنف والتطرف وأحادية الفكر والتحيز والتعدي والإيذاء وعدم الفاعلية والتزمت، واستبدلها بالتسامح والعفو والتصالح والسلام والانفتاح وكرس قيم التسامح والتصالح والانفتاح والمرونة الاجتماعية والانفتاح على الآخر، وأثرى فكرة التواصل والتسامح والحوار الإيجابي القائم على قاعدة وطنية وإنسانية مؤكدًا على التآلف الاجتماعي والتنوع ضمن الوحدة الوطنية وتصدى للتجزئة بأشكالها الأحادية والإقصائية، وبنى منهجًا عمليًا وفكريًا متكاملًا يقوم على التوعية والتثقيف بمبادئ الحوار والتسامح.

لا شك أن تجربة الحوار الوطني الطويلة أسهمت في تكوين نظرة وطنية حضارية مكنتها من إدراك الحاضر والمستقبل لتؤدي هذه النظرة الوطنية دورها الوطني في منظومة رؤية 2030.