عبدالله بن بجاد العتيبي

 التاريخ في جزء كبيرٍ منه هو من صناعة المنتصرين الكبار، الإمبراطوريات كانت تصنع دولاً وتخسف بأخرى، وتعلي من شأن الجغرافيا وتخفضه، وتطور الاقتصاد وتضعفه، وهو ما ينطبق على الدول العظمى الحديثة، فرؤاها وقراراتها تؤثر في دولٍ وشعوبٍ، ومجتمعاتٍ وأفراد.

وبغض النظر عن الرؤية التي تحكم المجتمع الأميركي على سبيل المثال تجاه الرئيس ترمب، وصراعاته الداخلية مع الأحزاب الأخرى ووسائل الإعلام ومجموعات الضغط وغيرها، إلا أنه في الواقع يعيد تعديل مسار التاريخ الذي حرفه سلفه أوباما، وبخاصة فيما يتعلق بالسياسة الخارجية والعلاقات الدولية، ليعيد لأميركا مكانتها العالمية المستحقة، وليدافع عن مصالح حلفاء أميركا حول العالم، ومنها دول الخليج العربي وعلى رأسها المملكة العربية السعودية تجاه الأزمات المشتعلة في المنطقة.
على الرغم من الدعايات اليسارية والإعلامية الأميركية المعادية لترمب فإنه لم يصنع شيئاً بعد في السياسة الدولية إلا محاولة الخلاص من انعزالية أوباما وانسحابه الواعي من العالم وسماحه لكل أشرار العالم بأن يزدادوا قوة وتمكناً، ذلك أن إعادة التاريخ لمساره الطبيعي من قبل ترمب بعد انحرافٍ دام لسنواتٍ ثمانٍ مهمة كبرى تحتاج وقتاً وجهداً لإعادة بناء ما هدمه أوباما من هيبة أميركا ومكانتها في النظام الدولي بأسره.
سمح أوباما باغتيال القضايا المهمة وباغتيال الشعوب، حين سمح لإيران بالتمدد ونشر الفوضى والإرهاب، وسمح لها بتطوير الصواريخ الباليستية، وخرس عن كل أدوار إيران التوسعية عبر الميليشيات والإرهاب، وتحديداً في بعض الدول العربية، كما تغاضى عن اغتيال القضية السورية واغتيال الشعب السوري، ودعم أوباما تمدد الأصولية والإرهاب فيما كان يعرف بالربيع العربي، وصمت أوباما أمام كل مشاغبات كوريا الشمالية، وسمح لها بتطوير ترسانتها النووية، لأنه كان رئيساً ضعيفاً بكل المقاييس.
ما يصنعه ترمب اليوم هو مجرد تنظيفٍ وإعادة ترتيب لكل الخراب الذي خلفه أوباما، فالعراق يسعى لاستعادة الدولة والخروج من التحكم الإيراني الذي دعمه أوباما بانسحابه المخجل، وترمب يدعم هذه الاستعادة، والدول العربية تدعم استقرار دول الخليج وعلى رأسها السعودية، كما يسعى ترمب لتثبيت أقدام أميركا داخل سوريا، وقد كان بريجنيسكي يقول: «كانت السيطرة على الأرض محور النزاعات السياسية» وذلك بعدما تركها أوباما نهباً لإيران وروسيا، وترك معارضتها ألعوبة بيد تركيا، المستفيد الأكبر من تنظيم داعش فيما مضى، والتي تخشى كثيراً اليوم من سياسات ترمب في سوريا، وفي تثبيت الوجود الأميركي في سوريا قطعٌ لكل سياسات إيران التوسعية من إيران إلى العراق ثم سوريا ولبنان.
كانت أكبر أخطاء أوباما في الاتفاق النووي مع إيران.. الاتفاق الذي أعطى النظام الإيراني كل ما يحتاجه دون أن يأخذ منه أي شيء يذكر، الاتفاق الذي عزز الأزمة في المنطقة والعالم ولم ينهها، والذي يصفه صادقاً الرئيس ترمب بأنه أسوأ اتفاق في التاريخ، وعلى العكس من أوباما فإن الرئيس ترمب يعلم جيداً خطر النظام الإيراني وأدواره الشريرة، وهو وضع الدول الأوروبية المدافعة عن الاتفاق النووي في حرجٍ كبيرٍ، حين منحها مهلة محددة، إما أن تجبر النظام الإيراني على الرجوع للواقعية والتخلي عن أوهام الهيمنة وبسط النفوذ وتصدير الثورة، وإما أنه سيتعامل مع هذه الدول على أنها تصطف مع النظام الديكتاتوري القمعي راعي الأصولية والإرهاب ضد الولايات المتحدة الأميركية وحلفائها حول العالم، وهو خيارٌ منطقي وواقعي يجب عليها التعامل معه.
الكرد أمة مظلومة وشعبٌ مقهورٌ، في كل الدول التي لهم وجودٌ فيها، وأكبر مضطهدي الكرد هما المشروعان المعاديان للدول العربية وشعوبها في المنطقة، إيران وتركيا، وهما مشروعان بينهما تحالفٌ ظاهرٌ وبينٌ، وقد أصبحت ملفاتهما مكشوفة أكثر من أي وقتٍ مضى، وسبل مواجهتهما تتطور وتتعزز وتزداد قوة، ولكن السياسات لا تبنى في يومٍ ولا تؤتي ثمارها في شهرٍ، بل هي تحتاج لأن تنضج بقوة التاريخ وبقوة السياسة.
لدى المشاريع المعادية نقاط ضعفٍ لا تحصى، وطرقٌ مسدودة لا تعد، وقد كانت بحاجة لوضعها على الطاولة أمام العالم أجمع، وهو ما يصنعه الرئيس ترمب، حيث يقود العالم لمواجهة استحقاقاتٍ حقيقية وحقائق جلية تجاه كل السياسات المشبوهة في المنطقة وحول العالم، وبالأخص تجاه التعامل مع الشعوب، بالقمع والظلم والسياسات العنصرية والآيديولوجية، ولئن كان المشروع الإيراني واضحاً منذ البداية في عدائه فإن المشروع الآخر حين اكتمل أبان عن عداوة لا تقل عن المشروع الإيراني تجاه دول الخليج والدول العربية.
مخدوعٌ عن نفسه من يحسب أن دول الخليج العربي يمكن أن تخدعها المزايدات أو تحرفها الشعارات، من المشروعين المعاديين، فنحن أمام دولٍ حديثة تتطلع للمستقبل بقياداتٍ شابة تجمع بين الحكمة والتخطيط المحكم، ويمكن للمتابع ملاحظة الأزمات الكبرى في المنطقة وكيف تدار بكل الدقة والوعي المطلوبين، والانتباه للحروب وكيف تخاض بكل الصبر والأناة، وحساب أدق التفاصيل والمضي قدماً، ببطءٍ أحياناً ولكنه بطءٌ أكيد المفعول.
باتت المؤسسات الدولية تجد نفسها في حرجٍ شديدٍ، تجاه سياساتها في العديد من أزمات المنطقة وقضاياها المهمة، بعدما أصبحت السعودية وحلفاؤها تبني القضايا وتقدم مواقفها وسياساتها بالطريقة الصحيحة وبالحقائق المبرهنة، وبالوثائق والأدلة، التي لا تدع مكاناً لأي شكوكٍ، وأوضح الأمثلة هنا، الصواريخ الباليستية الإيرانية التي يتم إطلاقها على السعودية بشكلٍ متصاعدٍ، من ميليشيا الحوثي في اليمن، وبدعم مباشر من الحرس الثوري الإيراني، وتدريبٍ من عناصر حزب الله اللبناني، وهي صواريخ تستهدف المدن والمدنيين، وهي وإن لم تكن ذات تأثيرٍ واقعي، فإن ذلك بسبب قوة الدفاعات الجوية السعودية وهذا لا يلغي إدانة هذا العدوان المتكرر ووضعه تحت مجهر المؤسسات الدولية وعرضه أمام العالم.
ما تقوله كل هذه المعطيات هو أن منطقة الشرق الأوسط والعالم بأسره أمام إعادة بناء توازنات جديدة، يجب على الجميع التعامل معها، بوصفها حقيقة واقعية، وكل محاولات إعادة توازن القوى تمر بمراحل من الاضطراب والارتباك لدى كل الأطراف، الكبيرة والصغيرة، ويكفي مراقبة المشهد السوري لاستيعاب كيف يمكن لهذه المحاولات أن تكون مربكة للجميع.
أخيراً، فإن ما يجري اليوم وعلى الرغم من ضبابية وتعقيد وتشابك العديد من الملفات هو المصنع الحقيقي للمستقبل وتوازناته وصراعات القوى فيه.