جويس كرم

 لبنان الذي كان يوماً منبع النهضة العربية، اختار هذا الأسبوع أن يتحول نموذجاً في الديماغوجية وأن يختبر أدوات القمع والتسلط، سواء أكانت تطال الأفلام أو الصحافيين أو التجسس. النتيجة كانت فوضى وحرجاً إعلامياً في محاولة منع فيلم «ذي بوست»، ومحاكمة الصحافية حنين غدار غيابياً، ثم القيام بعملية تجسس إلكتروني لا تليق بها كلمة التجسس وفي الشكل المفضوح الذي تمت به.

أن تتلقى هذه الأخبار وأنت على بعد آلاف الكيلومترات من بيروت، قد تصاب للوهلة الأولى بشعور سريالي. تتساءل: هل حقاً منعوا فيلم ميريل ستريب وتوم هانكس حول فظائع إدارة ريتشارد نيكسون؟ هل أصدروا حكماً غيابياً بالسجن ضد حنين غدار لانتقادها الجيش اللبناني عام ٢٠١٤؟ هل وصل الأمر بالاستخبارات اللبنانية أن تدير عمليات قرصنة من دون أن تغطي خيوط الجريمة؟ أسئلة تعبر عن واقع فوضوي وتجارب بدائية مع القوة للسلطات اللبنانية.

فلنبدأ بفيلم ستيفن سبيلبرغ. قرار المنع الذي دام ثلاثة أيام يعكس درجة عالية من السذاجة والاستهتار بعقول الناس وإهانة لأبسط حقوقهم الفردية. الفيلم ليس إسرائيلياً، أبطاله ليسوا إسرائيليين والكلام عن دور سبيلبرغ بإرسال تبرعات إلى إسرائيل يصبح ضرباً من النفاق حين ننظر إلى الحكومة اللبنانية ونجد أن جميع أركانها يتعاملون شبه يومياً مع شخصيات ومؤسسات حكومية وغير حكومية وشركات وجامعات ومؤسسات أجنبية تدعم إسرائيل. هل المطلوب قطع العلاقات مع أميركا وألمانيا وفرنسا والهند والأرجنتين وبقية الدول التي تدعم إسرائيل مباشرة أو عبر مواطنيها؟ أو هل المطلوب العودة إلى عصور سوفياتية وتقرير ما يشاهده اللبناني ويأكله ويشربه ويتنفسه؟ حتى أرباب النموذج السوفياتي تخلوا عن نموذجهم، والصين تتعثر في حجب وسائل التواصل الاجتماعي وحظر الأفلام.

أغرب ما في الأمر أن البعض في «النخبة الثقافية» في بيروت يؤيد قرارات القمع والرقابة، ويستخدم لغة جميلة وفلسفية لم تعد كافية لتبرير فكر متسلط ومهترئ.

ثم نأتي إلى قضايا محاكمة الصحافيين، وآخرها محاكمة غدار غيابياً في محكمة عسكرية وقرار سجنها ستة أشهر. غدار لم تسرق معلومات سرية من الحكومة اللبنانية، ولم تعرض الأمن القومي للخطر، ولم تستولِ على المال العام ولم تحمل سلاحاً أو ترتكب جرماً في وضح النهار في شوارع بيروت. ذنبها أنها أبدت رأياً انتقد مؤسسة الجيش اللبناني عام ٢٠١٤. إنما بدل الرد على الكلمة بالكلمة، وعلى الاتهام بالحقيقة إذا كان باطلاً، ندخل اليوم في دائرة جديدة ومخيفة من مقاضاة الصحافيين. تجربة من حولنا من تركيا والصين ومصر والدول التي تسجن الصحافيين تثبت أن هذه الآلية لا تنفع، على الأقل ليس في عصر التواصل الاجتماعي ووسائل «واتساب» و «تيليغرام» و «سيغنال» والتي ليس لدى سلطات أكثر حداثة من لبنان القدرة على ضبطها.

الأخطر في محاولات القمع في لبنان هو تأثيرها على علاقة بيروت بالخارج ومستقبل الحريات المدنية في بيروت في المدى المتوسط والطويل. فالحديث عن قطع جزء من المساعدات الأميركية للجيش اللبناني هو حاضر في الكونغرس. والمحاكمات ضد الصحافيين ستؤذي المؤسسة العسكرية قبل غيرها في واشنطن وبين أوساط الحزبين الديموقراطي والجمهوري مع إدارة قطعت المساعدات لباكستان ووكالة الأونروا ويتزايد تذمرها حول الواقع الحالي في بيروت.

أما في لبنان وهو الأهم، وحيث قطع المجتمع المدني شوطاً مهماً في الانتخابات البلدية وفي الحضور السياسي والإعلامي والثقافي والفني في بيروت، لا يجوز الانكفاء والقبول بمناخ يخنق الحريات وتتبجح فيه السلطة.

في فيلم سبيلبرغ لقطة لوزير الدفاع الأميركي السابق بوب ماكنيمارا وهو يهدد مالكة صحيفة «واشنطن بوست» كاي غراهام في حال نشرت وثائق حرب فييتنام (أوراق البنتاغون). يقول لها ماكنيمارا إن «نيكسون سيجمع قوة الرئاسة، وإذا كانت هناك طريقة لتدميرك فسيجدها»، لتجيبه غراهام: «أنا أطلب نصيحتك، بوب، وليس إذنك» قبل أن تنشر الصحيفة آلاف الأوراق التي عجلت إنهاء الحرب وأعقبتها استقالة نيكسون بعد «ووترغيت».