سليمان جودة 

 في مذكراته الشخصية التي صدرت في القاهرة قبل شهر، ذكر الأستاذ محمد سلماوي أنه كان في أستراليا، وقت أن أصدر السادات قرارات الاعتقال الشهيرة في سبتمبر (أيلول) من عام 1981.
كان صاحب المذكرات في رحلة صحافية إلى عدة مدن أسترالية، وجاء مَنْ يحمل إليه نبأ القرارات، ويُخبره بأن اسمه مُدرج ضمن قائمة تضم صحافيين في جريدة «الأهرام» التي كان يعمل فيها، وآخرين خارج «الأهرام»، وأن عدد الذين شملتهم قائمة الاعتقال بلغ 1536 شخصاً!


ثم جاء مَنْ يبلغه بعد ساعة بأن اسمه ليس مدرجاً في القائمة، وأن قراراً صدر بفصله من الجريدة، ضمن آخرين أيضاً في الصحافة وفي الجامعة، كان السادات يراهم عقبة في سبيل إتمام معاهدة السلام مع إسرائيل، وعودة ما كان قد تبقى من سيناء لديها!
ولم يفكر سلماوي كثيراً في أمر عودته، وقرر العودة سواء كان مصيره الاعتقال أو الفصل، لأن الهروب من الواقع في تقديره لم يكن يُجدي، ولأن مواجهة الواقع على الأرض هي دائماً أفضل وسيلة للتعامل مع ما يضعه في طريق المرء من تحديات... وبالفعل عاد إلى الوطن، إلى أن عاد لجريدته بعدها بفترة!
ومع الفارق... واجه مسلم البراك، عضو مجلس الأمة الكويتي السابق، موقفاً مشابهاً، فتصرف قبل أيام بالطريقة نفسها تقريباً!
والذين تابعوا عودته إلى بلده، عبر منفذ النويصيب السعودي البري، عرفوا القصة من أولها إلى آخرها، على طريقة «الفلاش باك» في السينما، عندما يبدأ المُخرج أحداث الفيلم من مشهده الأخير، أو قبل الأخير، ثم يأخذ بيد المُشاهد ليحكي له القصة من البداية!
والبداية في مشهد منفذ النويصيب، كانت في نوفمبر (تشرين الثاني) 2011، حين دخل البراك مبنى المجلس عُنوة، مع آخرين من الأعضاء، ومن آحاد المواطنين، وكان تكييف الواقعة في نظر القانون، أنها اقتحام مبنى من مباني الدولة، بالقوة، حتى ولو كان الذين شاركوا في الدخول رأوا فيما أقدموا عليه، نوعاً من أنواع التعبير عن الرأي... إذا كان هذا هو تقديرهم لما جرى منهم، في أجواء ما يُسمى بالربيع العربي التي كانت طاغية وقتها!
ومن تاريخ الواقعة راحت المحاكم تتداولها، إلى أن صدر الحكم فيها، آخر العام الماضي، على نواب حاليين وسابقين في البرلمان، وعلى متهمين آخرين، وكان نصيب البراك سبع سنوات!... ولأن الحكم صادر عن محكمة الاستئناف، فإن الذين صدرت ضدهم الأحكام، تظل أمامهم فرصة الذهاب بها إلى محكمة التمييز، باعتبارها أعلى درجات التقاضي.
وبصرف النظر عن تفاصيل القضية، وعن الأسماء الواردة فيها، فإنني وجدتني متابعاً لها بحلقاتها المختلفة من زوايا ثلاث؛ أولها زاوية تفضيل مواجهة الواقع، أياً كانت حقائقه، وأياً كان تقديرنا للموقف كأطراف في قضية، على نحو ما أشرت، وأنا أقارن بين الكاتب سلماوي من جهة، وبين النائب البراك من جهة أخرى، رغم أن بين الواقعتين اختلافاً في الكثير من الوجوه بطبيعة الحال!
والزاوية الثانية لا تقل عن الأولى من حيث أهميتها في السياق العام الذي نتحدث فيه، وأعني بها التعاطف على المستوى الإنساني، من جانب كل متابع لتطورات القضية، مع الذين صدرت بحقهم الأحكام، ومع أُسرهم... فالتعاطف على هذا المستوى تحديداً، مسألة عفوية، وتلقائية، وأكاد أقول فطرية، منذ أن كان على وجه الأرض قُضاة يُصدرون الأحكام، ومتهمون تصدر ضدهم هذه الأحكام!
لا تملك على هذا المستوى إلا أن تتعاطف، وأنت تتابع صيحات الألم، ودموع الحزن، تعرضها الصحف، ومن وراء الصحف، تستعرضها الشاشات!
ولكن!
هناك في آخر المطاف أحكام واجبة النفاذ، رغم أن أمامها فسحة أخرى من الوقت أمام محكمة التمييز، وهناك في الوقت ذاته قانون لا بديل عن أن يكون هو الفيصل بين الجميع، في عالمنا العربي بالذات، وبالعموم... وليس في الكويت وحدها، ولا في حالة مجلس الأمة فيها بمفرده.
إن رجال القانون وخبراءه يصفون الحُكم القضائي في العادة، بأنه عنوان الحقيقة، وهو لن يكون كذلك، إلا إذا كان موضع اعتراف، واحترام، وإقرار، من جميع الأطراف، منذ صدوره، إلى تنفيذه أو نقضه أمام درجة التقاضي الأعلى، سواء كان اسمها محكمة التمييز في الكويت، أو محكمة النقض في مصر، أو كان لها اسم ثالث في أي عاصمة عربية أخرى... إنها الملاذ الآمن الأخير في التقاضي كعملية ممتدة... وهذا يكفي!
لقد شاعت في أجواء 2011 وما بعدها، أن الشارع يمكن أن يكون بديلاً عن المؤسسات التقليدية في كل بلد عربي، وصلت إليه رياح الربيع، أو كادت تصل وهي تدق الباب... وكان شيوع أمر كهذا، يجد صدى مُرحباً لدى قطاعات لا بأس بها في امتداد الشارع العربي، ولكن الانسياق وراء إغواء الشيوع، كان كفيلاً لو استمر بهدم أساس الدولة الوطنية المعاصرة!
وكان تقديري الدائم أن إعلامنا تقع عليه المسؤولية الكبرى في إضاءة الوعي العربي العام حول هذا الموضوع، لأنه قد جاء علينا وقت في أكثر من عاصمة عربية، كانت المحاكم إذا أصدرت حكماً رأته في قضية معروضة عليها خرجت الأصوات العالية في الشارع تعترض، وربما تندد بالحكم وترفضه!
ولم يكن هذا جائزاً بأي حال، لسببين اثنين؛ أولهما أن القاضي، أي قاضٍ، يحكم بما أمامه من دلائل، وبراهين، وحجج، وقرائن، وليس بما يسمعه تتردد صيحاته في الشارع، أو يقال في وسائل الإعلام، أو في أي مكان خارج قاعة المحكمة. وثانيهما أن الاعتراض على حكم المحكمة، وقرار القاضي، مُتاح بالتأكيد، ولكن مكانه يظل أمام القضاء ذاته، بدرجات تقاضيه المتدرجة، وليس في عرض الشارع، ولا في الميادين، كما ظللنا نتابع في دهشة، وقت هبوب عاصفة الربيع!
القانون قد يظلم... هذا جائز وصحيح... لكن الذهاب إلى رفع الظلم الواقع منه، لا يكون إلا أمام القضاء، وإلا في رحابه، وإلا في قاعاته، وليس في الأفق المفتوح على الشوارع والميادين... ففي ملاذ القانون العادل ضمان لأمن الفرد، وصيانة لكيان الدولة!

التعليقات

أضف تعليقك