سميرة المسالمة

تأتي المفاوضات السياسية اليوم على وقع دوي أصوات مدافع الحرب في سورية على أكثر من جبهة، وبين متصارعين سابقاً، ومتوافقين حديثاً، ضمن تفاهمات ومتغيرات في الأجندات والمواقع والضفاف، في لعبة خلط الأوراق في أعلى درجاتها، لانتزاع الحصص من الوليمة المطهوة من دولة سورية المريضة بنظامها الحاكم من جهة، وبمعارضاتها المتعددة والمتناحرة من جهتين ثانية وثالثة.

وبينما تتوغل قدماً القوات التركية في القرى المحيطة بعفرين يتسلم النظام مواقعه الإستراتيجية في حماه وريفها وإدلب ومحيطها، حيث استطاع انتزاع مطار أبو ظهور من جبهة تحرير الشام (النصرة سابقاً)، ويستمر في حربه حتى يتمكن من عزل مناطق في ريف حلب وإدلب عن حماه وريفها، لتتحول المناطق التي تهيمن عليها «المعارضة» إلى مجرد كانتونات محاصرة ومعزولة عن بعضها بعضاً.

وعلى الجهة المقابلة تغير تركيا شروط اللعبة مع واشنطن بتفاهماتها مع موسكو وإيران، من خلال إعلانها المنفرد الحرب على عفرين ومحيطها، بعد أن فشلت في الحصول على المساندة الأميركية لمطالبها ومصالحها الحيوية في شمال شرقي سورية، ما جعلها تختار ما تعتقده الوقت السياسي الملائم لها للحصول على تنازلات روسية لمصلحة حربها، مقابل تموضعات جديدة لها على خارطة الصراع في سورية، لتصبح ضمن ثلاثية دولية (روسيا وإيران وتركيا)، مقابل الحلف الغربي الأميركي، وتفاهماته حول الصراع على سورية، إلا أن مراهنات تركيا على حاجة روسيا لشراكتها، في مسارها التفاوضي الجديد في سوتشي، قد لا يكون صائباً، فيما لو تجاوزت تركيا المهلة الزمنية « القصيرة» التي راهنت عليها بداية لكسب الصمت الروسي ماقبل مؤتمره في سوتشي.

من شأن هذه الحرب التي يراوغ النظام السوري إعلامياً برفضها أن تصب في مصلحته كاملة، حيث يمكن أن تدفع الكرد المسيطرين على المنطقة إلى خيارات عديدة، منها تسليم عفرين للنظام لتصبح تحت سيطرته وهو مايسعى إليه، أو أن يختار الكرد خوض حرب استنزاف مع تركيا ليست بالقصيرة، في حال اختارت الولايات المتحدة المراهنة على توريط تركيا داخل سورية، بدعم عسكري غير معلن للقوات الكردية، ما يعني تحويل المعركة، أياً كانت نتائجها، في غير المصلحة التركية «داخلياً على الأقل»، وإرباكها أمام الرافضين من الأتراك لمغامرتها في سورية. 

ففي خيار الكرد الأول تكون تركيا حققت من دون قصد المشروع الروسي الرامي إلى إعادة كل مناطق سورية إلى النظام، وفي الخيار الثاني لهم، أي استمرار «الحرب»، يحقق النظام مطلبه بإلهاء تركيا بحرب مديدة تهدد نظام الرئيس التركي «أردوغان» شعبياً.

وبينما تغرق تركيا في حربها على عفرين، تتنافس روسيا مع الأمم المتحدة في قضية حل الصراع تفاوضياً في سورية على ملف الدستور السوري، فحيث تراه الأمم المتحدة أحد سللها، التي تعبر من خلالها إلى ملامح الانتقال السياسي، تراه موسكو أحد معابرها لإعادة إنتاج النظام بأكثرية من يحضر من المدعوّين إلى سوتشي، ولهذ استبق المبعوث الدولي المؤتمر الروسي للحوار بجولة في فيينا «للدوبلة» على التوهم الروسي، الذي لازال يعتقد بإمكانية خطف الحل، بتوزيع الغنائم على المشاركين معه من دول وافقت على خطته، أو من هيئات سياسية، ومئات من السوريين، بحيث يختصر بهم إرادة الشعب بإعداد دستوره وفق تطلعاته، التي دفع أثمانها دماً ودماراً في بنيته الجغرافية والاجتماعية.

وعلى أهمية أن يكون الدستور حاضراً على طاولة مفاوضات المسار الأممي، إلا أنه أيضاً مسألة لا يمكن الارتكان إليها، في ظل غياب تمثيل حقيقي للسوريين على طرفي هذه الطاولة. فالنظام ليس بالضرورة يمثل ما يمكن تسميتهم الموالاة، لأن هذه الموالاة ذاتها منقسمة على نفسها، بين من يدعي «المعارضة داخلياً» للنظام، وهؤلاء بعضهم حاضر في سوتشي، وبين شرائح مسحوقة من الشعب تارة بسبب الواقع الاقتصادي وأخرى بسبب الواقع الأمني، وأؤلئك من الغائبين عن أي طاولة حوار، وثالثة تدور في فلكه ووجودها مرهون بالميزات التي يمنحها لها النظام فقط، بعيداً عن أي حديث حول الحقوق الدستورية أو القانونية، لحجم الاستفادة ودائرة التنفيذ الفعلي، ما يعني ان تعبير الموالاة عن نفسها، على رغم وجودها ضمن أو تحت وصاية النظام في مناطق نفوذه، ليس أمراً ممكناً، في ظل الهيمنة الأمنية التي تروع السوريين، قبل وخلال ومابعد سبع سنوات من انطلاقة الثورة السورية في 2011.

على الجهة المقابلة لم تستطع كيانات المعارضة السورية في الخارج تشكيل مرجعية موثوقة، وممثلة للسوريين ومعبرة عن مشروعهم الوطني الجامع، إذ بقيت المعارضة السياسية منقسمة بين عواصم ممولة لمشاريع سياسية، تتقارب حيناً مع طروحات وطنية سورية، وتتباعد في أحاييين عن أي مصلحة سورية، مقابل تقدم مصالح فردية مكتسبة من تنازلات عن مصالح وطنية كبرى، ما يعني عدم التعويل على أنه يوجد جهة واحدة تمثل كل المعارضة، ويمكنها التفاوض عن مستقبل سورية وشكله وتفاصيله، وطموحات السوريين بعيداً عن الارتهان لإملاءات من هذه الدولة، أو تلك.

يفيد كل ما تقدم بأننا لازلنا ندور في حلقة مفرغة من إعادة تدوير الكيانات المشكلة وفق الرغبات المصلحية للدول الداعمة، وبعيداً عن إرادة سورية مستقلة ترتكن إلى مصالحها الوطنية، من دون انحيازات مؤلمة، كما هو واقع الحال في الحرب الدائرة اليوم، في أكثر من موقع، ضمن ما يسمى حرب الفصائل بين بعضها بعضاً، أو تلك المساندة لحرب تركية على حساب وحدة النسيج السوري وخياراتها الوطنية، أو حتى المعارضة لهذه الحرب ضمن مصالح رعاتها المتناقضة مع تركيا كدولة، وليس مع الحرب كمشروع عسكري يجري خارج الأراضي التركية، وبأدوات وضحايا وقرى ومدن سورية.

ومع انتهاء جولة جديدة اليوم من المفاوضات في فيينا، هي كحال ما قبلها، ولاحقاً سوتشي، نكون قد دخلنا كسوريين مرحلة العمل العبثي، وصناعة أسباب استمرارية الصراع في سورية من مدن وأجندات، في ظل تهرّب شخصيات أوكلت لهم الدول -وليس الشعب- مهمات قيادية للمعارضة السورية، من مسؤولية تحديد موقعهم، وفق المصالح السورية الجامعة لدولة سورية الواحدة، ومسارات الحلول المؤدية إلى هذه الدولة، من دون التفريط بحقوق جماعة، او مكون، لا الخضوع للانجرار وراء صناعة لسورية المستقبل، على مقاس الجوار، وضمن تطلعاتهم وتحت جناح مخاوفهم أو مصالحهم، أو التعاطي مع المشروع الوطني السوري من منظور مراعاة الأطراف المتصارعة في سورية، وحماية مكتسباتها، التي قامت أساساً على تهميش النظام والهيمنة على قراره مقابل حماية وجوده واستمراره (روسيا وإيران) من جهة، وبالتلاعب بالثورة ومآلاتها وأهدافها وتشكيلاتها (تركيا والولايات المتحدة) من جهة أخرى، حيث أوهمتا السوريين بتعاطفهما ومساندتهما، ثم تركتاهم لمصيرهم أمام قوى عسكرية عظمى مساندة للنظام، بل ومقاتلة عنه سياسياً وعسكرياً.

قد تنجز تركيا في حربها على عفرين ما تريده من قطع الطريق على الكرد لتشكيل كيان كردي، أو فيديرالية متصلة تبلغ حتى البحر المتوسط، لكنها في المقابل، قد تكون السبب المباشر في دفع روسيا وأميركا، عند الحل النهائي للصراع في سورية، لأخذ المصالح الكردية في سورية على رأس أولويات الدستور سواء أعد في جنيف أم في سوتشي أو في أي مكان أخر.


* كاتبة سورية