محمد الرميحي

 كثيراً ما يردد الساسة والمنظمات السياسية وبعض القوى الأهلية نداء لطلب المساعدة من «المجتمع الدولي»، وليس أكثر مرواغة والتباساً وغموضاً في العلاقات الدولية السياسية اليوم من هذا المفهوم، فأين هو المجتمع الدولي؟ هو إرادة تتحقق عندما تتسق مصالح دول كبيرة بعضها مع بعض، وغالباً على حساب دول ومجتمعات أصغر، غير ذاك فلا يوجد مجتمع دولي.

أما أن يفترض أن هناك «مجتمعاً دولياً» عقلانياً ينحاز إلى الحق والعدل والمبادئ الإنسانية، فذلك غير محقق إلا في عقول الحالمين أو السذج. سبع سنوات حتى الآن والنظام السوري وحلفاؤه الدوليون والإقليميون يعيثون قتلاً وترويعاً للآمنين المدنيين في بلدات ومدن وقرى سوريا، ولا يوجد شيء اسمه «المجتمع الدولي» يردع ذلك القتل الجماعي المنظم، وتستخدم في الإبادة الغازات السامة، من دوما إلى الغوطة الشرقية إلى خان شيخون إلى غيرها من المدن السورية، والمجتمع الدولي على أكثر تقدير «متصدع» حول تلك الحقيقة. 
العالم منذ الحرب العالمية الأولى أدان استخدام الغازات السامة في الحروب، مروراً بالغازات التي استخدمها النظام الألماني النازي ضد مواطنيه، والتي أحدثت تداعيات كبرى في العالم، ولا تزال تتفاعل نتائجها حتى اليوم، مع كل ذلك فإن استخدام الغازات السامة في سوريا «مسألة فيها نظر» وموضوع يستحق التأني! أما استيلاء ميليشيات ممولة ومسلحة من إيران على مقدرات الدولة اليمنية، والضرب عرض الحائط بكل ما توافق عليه اليمنيون في بلادهم، بعد تخلصهم من النظام السابق، ومقاتلة الدولة اليمنية الشرعية، ومصادرة حق اليمنيين في دولة حديثة، فهي أيضاً من جانب المجتمع الدولي «مسألة فيها نظر»، ويجري تغيير «الوسيط الدولي في اليمن» كلما بُليت حجة ومجهود الوسيط الذي سبقه، وهذا ثالث وسيط دولي «بلا أسنان» يعيّن أخيراً للنظر في المسألة اليمنية، وذلك التنظيم الميليشياوي يفترس اليمنيين، ويصادر قوت يومهم ويفقرهم ويتركهم ضحايا الفقر والأمراض، بل ويستولي عنوة حتى على المساعدات الدولية والإقليمية ومساعدات دول الجوار التي تقدم للشعب اليمني.
المجتمع الدولي هنا من جديد يقدم فقط التمنيات اللفظية لا غير. في المسألة الفلسطينية نجد أن بعض المجتمع الدولي لا يتخذ قراراً في تجاهل الحق الفلسطيني فقط، بل ويُمعن في استفزاز الفلسطينيين وإذلالهم، ليس من خلال اتخاذ مواقف عملية ضد مصالحهم الوطنية فقط، كما حدث في موضوع القدس مؤخراً، ولكن إلى درجة حرمانهم من المساعدات، كما حدث لمؤسسة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين التي كانت تقدم الحد الأدنى من المساعدات الإنسانية لمئات الآلاف منهم في مناطق اللجوء.
على مقلب آخر، فإن «العدالة الدولية» المفترضة، التي صممت من أجل حفظ السلام والأمن الدوليين، واحتواء الصراعات، وأعني بها مجلس الأمن، أساساً ثم الجمعية العامة للأمم المتحدة، تصادف في السنوات الأخيرة عواراً مشهوداً، من خلال استخدام آلية الرفض لبعض البلدان الكبرى مراراً لتعطيل العدالة الإنسانية، سواء باتجاه فلسطين أو اتجاه الأعمال المستنكرة واستخدام الغازات السامة في سوريا أو في مناطق أخرى من العالم، فليس هناك اليوم مسطرة واضحة متفق عليها للصحيح والخاطئ في تصرفات دول وجماعات مسلحة تعبث بالأمن الوطني والإقليمي في أكثر من مكان، ومن اللافت أنه في العقد الأخير، أي السنوات العشر الأخيرة، أصبحت اجتماعات مجلس الأمن أكثر كثافة ودورية، عما كانت عليه في العقود السابقة، ولكنها أيضاً أصبحت مكاناً مستقراً لقول «الحقيقة الناقصة» وتكيفها حسب المصالح، على أقل تقدير، ومنصة أيضاً للرفض والاعتراض لا أكثر، حتى مفهوم محدد للإرهاب غير موجود أو متفق عليه بشكل نهائي وحاسم، في مكان يفترض فيه تحديد مسطرة القواعد الدولية، فالإرهاب، عند دولة هو لدى دولة أخرى عمل شرعي واجب القيام به.
الأمر الواضح في منطقتنا أنه بعد جهد جهيد لمحاربة الاستعمار بأشكاله الإمبريالية المعروفة، والذي انتهى تقريباً في طبعته القديمة في الثلث الأخير من القرن الماضي، نشهد استعماراً جديداً يتوسع ويترسخ، فماذا نسمي التموضع الروسي في سوريا مثلاً، وماذا نسمي التموضع الإيراني في كل من سوريا والعراق ولبنان واليمن، إلا أنه استعمار جديد، وماذا نسمي عودة الجيش الإيطالي إلى ليبيا؟ وعلى الرغم من أن الأمم في العالم أخذت على نفسها أن تقوم بتصفية الاستعمار القديم، وأصدرت في ذلك قرارات متزامنة مع إعلان شرعة حقوق الإنسان عام 1948 وعاد إليها مجلس الأمن تكراراً، خاصة عند اندلاع الصراع الطويل في جنوب أفريقيا، فإن الاستعمار الجديد لم يؤبه به حتى الساعة، وهو يبرر لنا على أنه «اتفاق بين دولتين» من أجل تحقيق مصالحهما، وهو في الحقيقة استعمار مباشر، يحقق مصالح الحكام في الدولة المستعمِرة الجديدة والمستعمَرة، ويخلق الاستعمار الجديد، كما فعل السابق مجموعات مصالح بشرية في الدولة المستعمَرة تابعة له ومؤتمرة بأمره! وتقف تلك الجماعات حجر عثرة أمام طموحات الجماهير الشعبية الواسعة للدولة المتسلط عليها، كما في لبنان والعراق وسوريا. 
وأمام العالم كله تتدخل دول بجيوشها لتقمع ما تراه من قوى معادية لها على تراب دول أخرى، وأيضاً العالم أجمع، و«المجتمع الدولي» غير آبه أو مكترث بما يحصل. 
من جهة أخرى، فإن الكثير من المجتمعات المستهدفة بالاستعمار الجديد، تفتقد ما يمكن أن يعرف بـ«التحديث الدفاعي»، أي تبني وسائل وطرق ومؤسسات تحصن شعوبها من الخلل الذي يدفع إلى الصراع الداخلي، ويفتح الباب واسعاً أمام التدخل الخارجي، ومن ثم الاستعمار الجديد. والتحديث الدفاعي يحتاج إلى شجاعة مفتقدة حتى الآن لدى كثيرين، خوفاً أو تردداً، كما افتقد لفترة طويلة سابقة في كثير من بلداننا، مما سهل لأشكال الاستعمار الجديد موضع قدم، وبعض هذا الاستعمار الجديد لا أكثر من تقسيم مصالح ونفوذ للقوى المتسلطة على شعوب المنطقة. وفي الأمر ذاك لا يمكن التفكير في إمكانية مساعدة «المجتمع الدولي» لأن بعضه مستفيد، وبعضه الآخر يخوض حرباً بالوكالة على أرضنا، وآخِر همه بالطبع هو حقن دماء أهلنا أو الحفاظ على مصالحهم، بل يتعامل معهم، مع شديد الأسف، وكأنهم دُمى لا بشر. 
المشهد الدولي اليوم هو مشهد غير مسبوق منذ الحرب العالمية الثانية، فقد تحول من صراع آيديولوجي بين قوى متنافرة، أو ما كان يعرف بالثنائية القطبية إلى قطبية أحادية في فترة قصيرة، إلى توافق غير معلن بين القوى الكبرى أخيراً، خاصة الولايات المتحدة والاتحاد الروسي، الهدف تقسيم الغنائم والحصول على الامتيازات على حساب الدول والمجتمعات الصغيرة والمتوسطة، وقد بدأت الحاجة متزايدة إلى إحياء الطريق الثالث، الذي كان يسمى في السابق دول عدم الانحياز، وربما باسم جديد، يبتعد على التنميط السابق، إلا أن تلك الرغبة تقال وتكتب، أما تنفيذها فهو الأصعب، لأن البعض لا يزال مخدوعاً بما يعرفه أنه «المجتمع الدولي» وهو سراب آن الوقت لأن نتبين حقيقته.
آخر الكلام: سرعة التغير في التحالفات الدولية، من النقيض إلى النقيض، سمة المرحلة التي نعيش، ولا يجد البعض حتى وقتاً لتفسير تلك التغيرات السريعة! كما أن مفهوم الدولة التقليدي (أرض وسيادة) يتلاشى!