غلين فرانكل

 قال شيشرون، الخطيب الروماني القديم: «في أوقات الحرب، تلزم القوانين الصمت». عندما تواجه الدول تهديداً وجودياً حقيقياً لبقائها على قيد الحياة فإن أكثر الدول ديمقراطية تخوّل لنفسها استخدام العنف من دون ضابط ذاتي أو قانوني. ولكن إلى أي نقطة يصبح العنف باسم الدفاع عن النفس غايةً في حد ذاتها، بالغاً حد الإدمان لممارسيه، والذين يتمكنون من أدواته ببراعة فائقة بمرور الوقت، لدرجة أنه يقوّض القيم الأساسية التي يُستخدم العنف في الدفاع عنها؟

ويجسّد هذا التساؤل التيمة الرئيسية لتأريخ رونين بيرغمان الموثوق والشامل لاغتيال إسرائيل الممنهج والمستهدف لأعدائها، والذي يصفه بقوله «أقوى آلة للاغتيالات عُرفت في التاريخ».

منذ الحرب العالمية الثانية، كما يقدر بيرغمان، تمكنت الدولة العبرية والمنظمات شبه العسكرية المتفرعة عنها من اغتيال المزيد من الناس بأكثر مما تمكنت أي دولة أخرى في العالم الغربي، إذ بلغ عددهم نحو 2300 شخص راحوا ضحية «عمليات الاغتيال المستهدف». وكان أغلب هذه العمليات موجهاً ضد الفلسطينيين، ولكنها شملت كذلك بعض المصريين، والسوريين، والإيرانيين، وغيرهم. ولحقت دول غربية أخرى بذات المسار الملطخ بالدماء؛ إذ صدّق الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما على تنفيذ 353 عملية اغتيال باستخدام الطائرات المسيّرة (من دون طيار) ضد أشخاص معينين خلال 8 سنوات من رئاسته للولايات المتحدة الأميركية.

كانت التهديدات التي واجهت دولة إسرائيل حقيقية وواقعية. ومنذ ما قبل إعلان قيام دولة إسرائيل، استهدفت مجموعات (فلسطينية عربية أو مؤيدة لها)... أهدافاً مدنية، مثل المدارس، والمقاهي، والمتاجر، وحافلات الركاب، والطائرات التجارية، وحتى احتفالية عشاء عيد الفصح التي حضرها عشرات المسنين اليهود لم تسلم من استهداف المسلحين والانتحاريين... وتصوروا مدى السرعة والوحشية التي كانت سترد بها الولايات المتحدة إن حاولت عصابة من الإرهابيين من كندا إلحاق الأذى بحضانة لرياض الأطفال في مدينة ديترويت. في واقع الأمر، ليست هناك حاجة إلى التخيل؛ ففي أعقاب هجمات الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) لعام 2001، قذفت الولايات المتحدة بدليل حقوق الإنسان من النافذة، واندفعت في موجة عاصفة من عمليات القتل المستهدف، والاختطافات، والتعذيب، والاعتقال لفترات مفتوحة من دون محاكمات، كانت كلها تعكس حالة الانتقام الثأرية تحت شعار الحيلولة دون وقوع هجمات مستقبلية.

ولقد اكتسب القادة في إسرائيل سمعة عالمية من الكفاءة التي لا تعرف الرحمة، اعترافاً منهم وتبجيلاً بالتكليف التلمودي الذي ينص على أنه «إن جاء أحدهم ليقتلك، قم واقتله أولاً». ومن ثم، كما يقول بيرغمان، صارت عمليات الاغتيال السرية خلف خطوط العدو هي «المبدأ الأساسي للعقيدة الأمنية الإسرائيلية».

وتحت مسمى أمن الدولة، لم يُكلف المسؤولون الإسرائيليون أنفسهم عبء التزام المسارات القانونية أو الشرعية، بل ألقوا بها تحت أقدامهم منطلقين في طريقهم المرسوم. وكما يقول بيرغمان في كتابه «لم تكن عمليات الإعدام ذات الإجراءات الموجزة بحق المشتبه فيهم الذين لا يشكلون تهديدات مباشرة، وانتهكت قوانين دولة إسرائيل وقواعد الحرب -من قبيل الأعمال المارقة من حفنة من المسلحين الموتورين. بل كانت عمليات اغتيال تُنفّذ على نحو رسمي خارج نطاق القانون».

يُذكر أن رونين بيرغمان، كبير المراسلين العسكريين لدى صحيفة «يديعوت أحرونوت» اليومية البارزة والأكثر انتشاراً في المجتمع الإسرائيلي، يحظى بسمعة طيبة كصحافي لا يعرف الكلل أو الملل، وهو الذي تكونت لديه دائرة موسعة وعميقة من المصادر المطلعة داخل المؤسسة الدفاعية الإسرائيلية على مدى السنوات العشرين الماضية. وهو يحتل موقعاً مميزاً، إذ يحصل المراسلون العسكريون على إحاطات إعلامية منتظمة من كبار المسؤولين الدفاعيين في البلاد، ولكن يتعين عليهم رفعها قبل نشرها إلى مكتب الرقابة العسكرية، والذي في غالب الأمر يستأصل الكثير من المحتويات المهمة. غير أن بيرغمان يملك حيال ذلك سلاحاً خفياً: صلات وثيقة بحفنة من الشخصيات النافذة الثرثارة (أجل، كانوا جميعاً من الرجل مع استثناء وحيد يدعى غولدا مائير). وكان من الواضح امتلاكه للمصادر الممتازة في المكونات الثلاثة الرئيسية لآلة الاغتيالات الإسرائيلية المروعة: مديرية الاستخبارات العسكرية، وجهاز الموساد، وجهاز الأمن الداخلي (شين بيت). ويكتب بيرغمان قائلاً عن ذلك: «من ناحية، كان جُل ما يتعلق في البلاد بعالم الاستخبارات والأمن القومي يحمل شعار (سري للغاية). ومن ناحية أخرى، كان الجميع يرغبون في الحديث عن إنجازاتهم».

وكان الانطباع العام يوحي بقدر كبير من الأمراء المحاربين الذين يحظون بمزيد من الذكاء، والتفاني، والصلاح الذاتي، والحكمة الرفيعة ممن يسعون جاهدين لاستحداث أساليب جديدة ومبتكرة في تحديد واغتيال أعدائهم، على قناعة ذاتية راسخة بأنهم ليسوا الأفضل فقط في مجال عملهم، ولكنهم الأكثر أخلاقية فيما يفعلون. ويا لشدة ما يتألمون للأبرياء من المدنيين الذين يسقطون إلى جانب أعدائهم، غير أنهم سرعان ما يجدون المبررات المسوغة لأفعالهم ويحسنون تغطية حساباتهم الخاطئة والتي ربما تكون مسببة للحرج في بعض الأحيان.

والعديد من القصص التي يطرحها بيرغمان في كتابه ليست جديدة على المجال العام، غير أنه يزخرفها بتفاصيل غير مروية من قبل. ومع ذلك، تبدأ الروايات بعد فترة من الوقت في التماس سبيل الغموض وتتحول فصول الكتاب إلى ما يشبه محاضر تحقيقات الشرطة المثيرة للضجر. وينبغي أن يُطلق عليها حرفياً «أعظم الاغتيالات في تاريخ إسرائيل».

كانت هناك انتصارات لا يعرف الجميع عنها شيئاً. فلقد ساعدت حملة الاغتيالات السرية التي نفذتها دولة إسرائيل ضد علماء الذرة الألمان الذين كانوا يعملون في مصر في خمسينات وأوائل ستينات القرن الماضي، إلى جانب علماء الذرة الإيرانيين خلال العقد الماضي وحده، في إعاقة تطوير برامج الأسلحة النووية لدى البلدين. وأسفرت عمليات استهداف الرجال الذين اغتالوا 11 رياضياً من أفراد البعثة الأولمبية الإسرائيلية في دورة ميونيخ للألعاب الأولمبية عام 1972 عن اتخاذ زعيم منظمة التحرير الفلسطينية ياسر عرفات قراره بوقف عمليات تنظيم «أيلول الأسود» بصفة نهائية. وكانت عملية القوات الخاصة الشهيرة في عام 1976 والتي أسفرت عن إنقاذ 102 رهينة إسرائيلية في مطار عنتيبي الأوغندي من أكثر العمليات العسكرية جرأة وشهرة وفعالية.

بيد أن العديد من النجاحات الكبيرة كانت تستلزم تكاليف باهظة وكبيرة. على سبيل المثال، في أبريل (نيسان) عام 1988، خلال الأيام المبكرة من الانتفاضة الفلسطينية الأولى في الضفة الغربية المحتلة وقطاع غزة، استهدف القادة الإسرائيليون «خليل الوزير»، والمعروف إعلامياً باسم «أبو جهاد»، وكان الرجل الثاني في منظمة التحرير الفلسطينية، وزعيمها ياسر عرفات، ورئيس الجناح العسكري في حركة «فتح»، إذ هبطت فرقة من القوات الخاصة الإسرائيلية سراً على أحد الشواطئ التونسية، وواصل أفرادها طريقهم صوب فيلا «أبو جهاد»، وأطلقوا عليه 52 رصاصة داخل غرفة نومه على مرأى ومسمع من زوجته. وكان هدف العملية تقويض الانتفاضة المندلعة في الأراضي المحتلة من خلال القضاء على زعيم بارز وكبير في منظمة التحرير الفلسطينية (...). ولكن بيرغمان يقول إن العملية عادت بأثر عكسي غير المنتظر منها تماماً، إذ أدت إلى إضعاف قيادة منظمة التحرير الفلسطينية في الخارج ولكنها عززت كثيراً من اللجان الشعبية في الأراضي المحتلة والذين كانوا القادة الحقيقيين للانتفاضة على الأرض. كما ينقل بيرغمان مقولات عن بعض المسؤولين الإسرائيليين الذين يعتقدون الآن في المساهمات الكبيرة والمؤثرة التي كان «أبو جهاد» قادراً عليها إن بقي على قيد الحياة.

وأصبح اغتيال «أبو جهاد»، كما يقول بيرغمان، واحداً من سلسلة ممتدة من النجاحات التكتيكية المثيرة للإعجاب، ولكنه يعكس في نفس الوقت الفشل الاستراتيجي الكارثي الذريع. ويواصل بيرغمان حديثه قائلاً إن عملية الاغتيال التي نُفذت في غزة عام 2004 واستهدفت الشيخ أحمد ياسين، زعيم حركة «حماس» الأصولية المتشددة، قد فتحت الأبواب أمام المزيد من التدخلات الإيرانية الكبيرة لدى المتطرفين الإسلامويين في الأراضي المحتلة. كما أسفرت العمليات العسكرية ضد عناصر تنظيم «حزب الله» اللبناني في عام 2006 عن توطيد مكانة ونفوذ حسن نصر الله، الزعيم الراديكالي للتنظيم.

يرسم بيرغمان لوحة تقشعرّ لها الأبدان حول تطور برنامج الاغتيالات الإسرائيلية، مع امتلاك العناصر الإسرائيلية المزيد من المهارة في استهداف واغتيال الأهداف باستخدام السيارات المفخخة، والرسائل البريدية المفخخة، والغارات الجوية، والأجهزة المتفجرة الملحقة بالسيارات بواسطة عناصر الاغتيال على الدراجات البخارية، وحتى الحلوى المسمومة (ولكن هذا الأسلوب في الاغتيال فشل، لأن الهدف المقصود لم يكن من محبي الحلوى). وفي بادئ الأمر، كانت كل عملية اغتيال مقترحة تستلزم «ورقة حمراء» ممهورة بتوقيع رئيس وزراء إسرائيل. ولكن مع طول الوقت الذي تستغرقه عملية الموافقة، تمكن قادة الأجهزة السرية من الالتفاف على الأمر من خلال «إطلاق مسمى مغاير على الاغتيال، وبالتالي يمكن إدراجه تحت بروتوكول مختلف لصنع القرار». واستُكملت أركان البرنامج عن طريق المفردات الأورويلية الخاصة، إذ حمل اغتيال المدنيين الأبرياء مسمى «الأضرار العرضية»، في حين أن عمليات الاغتيالات ذاتها باتت تُعرف باسم «الأعمال الوقائية المستهدفة».

ومع نهاية الكتاب، يشير بيرغمان إلى الاحتمال المثير للقلق الذي سمح به رئيس الوزراء الإسرائيلي أرييل شارون، باغتيال ياسر عرفات، الذي وافته المنية عام 2004 إثر إصابته «بمرض معوي غامض». يقول بيرغمان إنه حتى وإن كان على دراية بما حدث فلن يستطيع الكتابة عن الحقيقة نظراً إلى أن الرقيب العسكري في إسرائيل يمنعه من مجرد مناقشة هذا الموضوع تماماً.

وكثيراً ما يقول بيرغمان إن القادة الإسرائيليين يقضون حياتهم المهنية في محاولات مضنية للتفوق بعضهم على بعض في ابتكار الأساليب الجديدة للقضاء على أعداء إسرائيل، حتى يصيبهم الندم العميق لقصر النظر الذي كان يعتريهم فور مغادرتهم مهام مناصبهم. فلقد كان مائير داغان أحد أكثر المحاربين المتحمسين في الأجهزة السرية الإسرائيلية في أثناء رئاسته لجهاز الموساد، ثم أصبح من أبرز نقاد الحكومة ورئيس الوزراء بنيامين نتنياهو بعد خروجه من الخدمة في عام 2011. وفي مسيرة سياسية معارضة شهدتها شوارع العاصمة تل أبيب قبل الانتخابات العامة في مارس (آذار) لعام 2015، أعلن داغان قائلاً: «أعتقد أن الوقت قد حان لكي نستيقظ، وآمل أن يتوقف المواطنون الإسرائيليون عن أن يقعوا رهينة للخوف والقلق الذي بات يهدد حياتنا ليل نهار». ثم فاز بنيامين نتنياهو في إعادة الانتخاب. ولقي داغان منيته في عام 2016 إثر إصابته بمرض السرطان. ولا يزال صراع المائة عام بين العرب واليهود مستمراً بلا توقف في حرب لا تستشرف في أفق الأيام نهايةً قريبةً بحال.