حسين شبكشي 

الكتاب المثير والمميز يجبر القارئ على احترامه وقراءته بنهم وفضول. هذا ما حصل معي أخيراً، حينما كنت على الطائرة قادماً من نيويورك. الرحلة طويلة جداً، وكان الكتاب خير رفيق. المؤلف هو المؤرخ المعروف نايل فيرغيسون، والكتاب بعنوان «الميدان والبرج»، وهو يصف دوائر التأثير والقوة منذ عهود الماسونية القديمة جداً إلى عصر «الفيسبوك» الحالي.


يقول الكتاب إن معظم التاريخ هو تاريخ تراتبي هيكلي؛ البابوات ورؤساء الدول ورؤساء الوزراء. التاريخ هو عن الدول، وعن الجيوش والشركات العظمى. إنها أوامر من فوق إلى تحت، وهذا التاريخ هو الذي ينظر إليه وتتم دراسته، لأن من خلاله تجري صناعة «الأرشيف» العظيم الذي يتم اللجوء إليه للمعرفة الكبرى. ولكن في هذه الحالة، يتم إغفال دوائر التأثير الأقل بروزاً وظهوراً، وهي التي تصنع «التغيير الحقيقي»، وبالتالي يتم تركهم لتتحدث عنهم نظريات المؤامرة الكبرى، بمختلف درجات الخيال الأقرب للأساطير وللخرافات منه إلى الواقع الحقيقي.

يقال إن القرن الحادي والعشرين هو زمن وحقبة «دوائر التأثير» الكبرى، ولكن هناك رأياً آخر لنايل فيرغيسون، الذي يعتقد أن «دوائر التأثير» موجودة معنا وحولنا منذ أبعد الأزمان، من خريطة العقل إلى سلسلة الغذاء إلى الماسونية نفسها. هناك «مجموعات تراتبية سكنت الأبراج العالية، وادعت أنها المسيطرة والحاكمة على غيرها، هذا على الرغم من أن الحكم الظاهري هو لمجاميع أخرى تسكن في مبان وسط الميادين العامة. ومن خلال دورة التاريخ الكبرى، يظهر أن دوائر التأثير تتطور وتتحسن من خلال التجارب أو الخبرة المكتسبة. وعلى الرغم من كون معظم أصحاب نظريات المؤامرة العظمى يبرزون دوائر التأثير هذه بشكل مخيف ومثير ومرعب، فإن هذا لا يعني أبداً أن هذه الدوائر المؤثرة غير موجودة، وتعمل وتتطور بشكل مذهل.
ومن «المجاميع المجهولة» التي سكنت روما القديمة إلى سلالات عصر النهضة من الآباء المؤسسين لأميركا الحديثة، إلى منظومة «فيسبوك» الحديثة، يدخل الكتاب في تفاصيل هذه الدوائر المؤثرة، وكيف تأسست ونمت، ودوران صعودها وسقوطها، وحالات دورات إعادة نفسها ويقظتها، وإعادة هندستها. إنها صفحات من تاريخ مجهول وغامض، ولكنه في غاية الفعالية والتأثير، نعيش آثاره ونتائجه بشكل دائم. ولكل المعتقدين أن عمالقة التقنية من وادي السيليكون سيشكلون عالماً متناسقاً متشابهاً، يحذرهم فيرغيسون من أنهم سيلقون صدمة كبرى لأن ما حصل لدوائر التأثير في القرن السادس عشر والقرن السابع عشر له ملامح شبيهة بما حصل في عهد «فيسبوك» و«داعش» وترمب.
الكتاب ممتع ومثير لأنه غير تقليدي، ويدخل مناطق جديدة بشكل تاريخي وتوثيقي.