عبدالله بشارة 

كتبت منذ سنتين عن هند الصبيح، وزيرة الشؤون الاجتماعية والعمل، وقلت إنها أفضل الوزراء التزاماً بالقانون، ومن أخلص الناس في حماية المال العام، وواحدة من أنظفهم في النزاهة، فقد جاءت الخصومات لها من وقفتها الصلبة في وجه البرلمانيين الذين لا يتردّدون في الجدال لتحقيق مكاسب سياسية، كلها مخالفات، وكلها لا تنسجم مع ضوابط العمل وتخلق الارتباك، ومع مرور الوقت انتاب نوابَ المخالفات ضيقٌ بوجودها واعتبروا صلابتها الصخرية في رفض مخالفاتهم عائقاً لا بد أن يزول، وتلاقت موجات الغضب على الوزيرة النظيفة عبر تجمع نواب مدفوعين بالأمل باختفائها من مسؤوليات الوزارة، لكي يمرحوا في عهد جديد يلبي طلباتهم، فلم يأت على بال مهندسي الكمين أن تكوين جيناتها تنتمي إلى تلك المجموعة التي يمكن أن نطلق عليها القوى الكويتية العميقة التي تشكّلت تاريخياً من التجار الكويتيين في العشرينات والثلاثينات من القرن الماضي، والتي تداخلت مع النظام السياسي في المشورة في معظم الأحيان وفي المجادلة في بعض الأحيان، وواصلت هذه القوى تواجدها السياسي عبر الأربعينات والخمسينات، وعاصرت إعلان الدستور 1962، واشتركت في المداولات التي تمت في المجلس التأسيسي لمناقشة بنود الدستور مع السعي لجعلها تتلاءم مع بيئة الكويت وتراثها ومنسجمة مع خصائصها.
وانتظمت هذه القوى في جلسات المجلس التأسيسي وعملت باخلاص لتحصين الدستور من سوء الاستغلال، وأبرزت أهمية الولاء لبنوده في احترام القانون والوفاء لشروط نظافة السلوك واحترام المنزلة البرلمانية، وأتذكر صوت المرحوم حمود الزيد الخالد، مستنفراً، دفاعاً عن القيم التي يجسدها الدستور وأبرز مميزاته ما نسميه «الحشمة» في التعامل مع بنوده والاسترشاد به في العلاقات السياسية والاجتماعية والخضوع لمبادئه.
والحشمة هنا وقاية القيم العالية التي تتطلبها لائحة السلوكيات من النواب والوزراء ومن أبناء المجتمع.
والحق أن وزيرة الشؤون السيدة هند الصبيح حملت الأمانة التي رسختها قوى التأسيس السياسي والنيابي بكل شجاعة، وبكل وضوح، فعندما تقول «لم يدخل جيبي دينار واحد» أصدقها، وعندما تلوح بكلماتها بالوفاء للنصوص وتنطلق ملتزمة بالروح التي يضخها الدستور، يزيد يقيني بصدقيتها ونزاهة كلماتها.
لا أشك في وقفتها متحدثة من المنصة، تنفي الاتهامات بثقة وترد بلغة الأرقام، وتحلق بأثواب النزاهة، بعلو يثير الاعجاب، وتكشف الوزيرة عن تضخم ميزانية المساعدات الاجتماعية التي ارتفعت إلى 265 مليون دينار، مما يعني أكثر من مليار دولار، في عنوان واضح لمتاعب الدولة الرعوية، وتكشف لنا متاعب المجتمع «البطران» الذي يتّكل على ما تجود به الدولة.
وإذا تكلمنا عن روح البطر السائدة في الكويت فلا بد من الاعتراف بأن طرح الثقة بالوزيرة الصادقة، هو أكبر مثال على البطر النيابي، الذي جاء من مادة في الدستور تبيح لنائب واحد أن يدخل مسيرة المجلس إلى أجواء الاضطراب بتقديم استجواب ضد أي وزير مستغلاً هذا الوهن الكبير في مبنى الدستور الذي أدعو إلى علاجه بإدخال تعديل يستوجب مشاركة ما بين ثمانية إلى عشرة نواب لتقديم طلب الاستجواب.
وتبقى هذه المادة هي المدخل الشرعي للازعاج والمزايدة، والوسيلة المفيدة لنجاح المرشحين الذين يتعهّدون لقواعدهم بخدمات فوق القانون معتمدين على أسلوب الضغط على الوزراء والتلويح بالاستجواب لتحقيق هذه الوعود، وأحيانا بأسلوب فجّ يتطاول على القانون ويتلاعب بالنظام العام للدولة.
وبسهولة يمكن التعرّف على غايات المستجوبين من الممارسة السلوكية، فمعظمهم نواب خدمات مع بعض من مجموعة حدس (التجمّع الديني السياسي) الذي انزلق مؤخراً في هواية خلط الأوراق، بدلاً من أن يتطوّع ليقود القاطرة نحو العمل الجاد، وفق منطق الدستور.
ونعترف جميعاً بأن العمل الوزاري طارد وغير مستحب ويبتعد عنه الكثيرون من أصحاب المؤهلات الذين يمكن أن يعيدوا الحياة إلى الحيوية السياسية البرلمانية التي بحاجة إلى فكر فيه خصوبة الانفتاح والمبادرة.
تظل المشكلة مستمرة معنا طالما يتواصل عجز التجمّعات السياسية عن طرح مخاطبة واقعية لتطوير الأداء السياسي النيابي والشعبي تغري الراغبين في العمل السياسي وتدفع التجمعات السياسية المدنية لتقترب من علاج الكساد الطاغي على المشهد، وستبقى المشكلة رغم اجتهادات المؤدب أحمد الديين وجماعته وبيانات «المنبر» وغيرهما.
تحدثت عدة مرات مع الوزيرة هند الصبيح عن الاختلال في التكوين السكاني في الكويت وعن التكويت، فكانت حماستها التلقائية مملوءةً بالحس الوطني المدرك للبعد الأمني وللآثار السلبية على البناء المجتمعي المتوارث، فلا تحتاج إلى من يقرع جرس الانذار، ولا من يزايد على مكانتها الوطنية ولا على ما ورثته من اخلاص للقانون وقواعد التعايش بين أبناء الوطن، فقد جاءت من بيت كان، وما زال، متواجداً في القوى العميقة للدولة الكويتية.
نحيي همة الوزيرة في الكشف عن تجارة الاقامات وتحويلهم إلى النيابة العامة مع كشف الأسماء لتأمين الاحراج الشعبي الدائم، وتوطين الجهاز، فجلسة الاستجواب مبعث لتدفق طاقة الاقتناع بالتأييد الشعبي وللثقة بالنفس مع الايمان بالهمة الوطنية العميقة.