لم يبدأ الصراع على عدن أمس ولن ينتهي غداً. ليس طبيعياً التساؤل من يسيطر على عدن في الوقت الحاضر. الطبيعي أن تكون السيطرة على عاصمة الجنوب اليمني، ذات التاريخ العريق، للقوى التي لديها علاقة بعدن نفسها وطموحات أهلها والمحافظات المحيطة بها والقريبة منها مثل لحج والضالع.

لا يمكن السيطرة على عدن عبر قوى لا علاقة لها أصلاً بالمدينة، بل تريد استخدامها قاعدة لها في خدمة مشروع سياسي غير قابل للتحقيق. يقوم هذا المشروع على استعادة الوحدة اليمنية انطلاقاً من عاصمة الجنوب اليمني. ليس طبيعياً أن تكون السيطرة على عدن من شخص ليس لديه وجود في المحافظة التي ينتمي إليها، وهي محافظة أبين التي تقع على مسافة قريبة من عدن أيضاً. ما نشهده اليوم في عدن هو استمرار لما حصل في الثالث عشر من كانون الثاني (يناير) 1986 لا أكثر.

وقتذاك انتصرت قوى معيّنة في عدن، من منطلق مناطقي وقبلي قبل أيّ شيء آخر. بكلام أوضح انتصر عسكريو لحج والضالع على عسكريي أبين وشبوة الذين كانوا يسيطرون على البحرية وسلاح الجوّ. حسم المعركة الضابط هيثم قاسم طاهر، وكان من الضالع، وذلك بواسطة الدبابات التي كانت في إمرته ورجّح كفة الفريق المعادي لعلي ناصر محمّد.

ليس طبيعياً، بعد إثنين وثلاثين عاماً على إزاحة علي ناصر محمّد، وهو من أبين، من موقع رئيس الدولة والأمين العام للحزب الاشتراكي الحاكم، أن ينتصر في عدن ضابط من الذين كانوا موالين له. عرفت جماعة علي ناصر محمّد التي خسرت السلطة في العام 1986 بتسمية «الزمرة». كان عبد ربّه منصور هادي الذي أصبح رئيساً موقتاً في العام 2012، كما كان قبل ذلك نائباً للرئيس في عهد علي عبدالله صالح، من المنتمين إلى «الزمرة». كان أيضاً بين الذين لجأوا إلى صنعاء بعد «أحداث 13 يناير» التي اعتُبرت نقطة تحوّل على الصعيد اليمني ككلّ. لم تكن تلك الأحداث، التي لم يستطع الاتحاد السوفياتي احتواءها، إشارة إلى انتهاء النظام في اليمن الجنوبي فحسب، بل مهّدت أيضاً للوحدة اليمنية التي تحقّقت في الثاني والعشرين من أيّار (مايو) 1990.

في الثالث عشر من كانون الثاني (يناير) 1986، انتصر خصوم علي ناصر محمّد بعد مواجهات ذات طابع دموي سقط فيها ما يزيد على عشرة آلاف قتيل. لا أرقام دقيقة عن حصيلة تلك المعارك، لكنّ الثابت أنّها كانت حرباً أهلية تواجهت فيها محافظات مع محافظات أخرى. اضطر المنتصرون في تلك المواجهة، من عسكريي لحج والضالع، إلى الاستعانة بشخصيات مدنية من حضرموت لتشكيل غطاء لهم بعد تحقيق انتصار عسكري على «الزمرة». كانت أبرز شخصيتين في تلك المرحلة علي سالم البيض، الذي تولّى الأمانة للحزب الاشتراكي الحاكم، وحيدر أبو بكر العطّاس، الذي أصبح رئيسا للدولة. وكان هذان الموقعان في يد علي ناصر محمّد قبل إزاحته نتيجة صراع دموي حاول خلاله التخلّص من خصومه، فقتل، عبر مرافقه حسّان، أربع شخصيات أساسية منهم. قُتل عبد الفتاح إسماعيل وعلي عنتر وصالح مصلح قاسم وعلي شايع. لم يوفّق في التخلّص من الآخرين الذين أصبحوا في الواجهة، خصوصاً بعد الوحدة التي استمرت عملياً أربع سنوات. عاد اليمن كلّه، في ضوء رغبة الحزب الاشتراكي بالعودة عن الوحدة في العام 1994، إلى نظام يتحكّم به علي عبدالله صالح من دون شراكة جنوبية تُذكر. لم يكن عبد ربّه منصور هادي الذي أصبح نائباً للرئيس سوى جزء من الديكور ليس إلّا.

لا ضرورة لاستعادة كلّ الاحداث التي شهدها اليمن بشطريه الشمالي والجنوبي منذ العام 1986. لكنّ ما لا مفرّ من الاعتراف حالياً أن الرغبة لدى أكثرية الجنوبيين هي في الانفصال ولا شيء آخر. يعبّر «المجلس الانتقالي» عن هذه الرغبة. ما الذي يعنيه الانفصال؟ هذا موضوع آخر. الأكيد ان لا مجال لإعادة الحياة إلى «جمهورية اليمن الديموقراطية الشعبية» التي كانت قائمة قبل الوحدة. وهذا يعني في طبيعة الحال أن لا مجال للعودة إلى بلد مستقلّ اسمه اليمن الجنوبي. لم يعد هناك ما يربط حضرموت من جهة بعدن أو بلحج والضالع من جهة أخرى. يمكن ربط حضرموت بشبوة في المستقبل. كما يمكن ربط عدن بمدينة مثل تعز تُعتبر عاصمة الوسط اليمني ذي الكثافة السكّانية الكبيرة والأكثرية الشافعية.

منذ ما قبل اغتيال الحوثيين لعلي عبدالله صالح، قبل شهرين، هناك واقع جديد في اليمن. هناك «شرعية» لم تعرف كيف تتعاطى مع هذا الواقع وهناك قوى شعبية حقيقية في الجنوب. تضمّ هذه القوى الشعبية قسماً من أهالي أبين أيضاً. تحاول هذه القوى التكيّف مع حال التشظي التي يعاني منها بلد لم يعد فيه مركز يمكن أن تُدار شؤون الدولة الموحّدة منه. كان علي عبدالله صالح أوّل رئيس لليمن الموحّد وآخر رئيس له.

هذا هو الواقع اليمني الآن. شكّلت الوحدة في مرحلة معينة ضرورة، خصوصاً بعد انهيار الاتحاد السوفياتي الذي كان يسيطر على الجنوب إبان الحرب الباردة. حفظت الجنوب وساعدت في تفادي حروب بينه وبين الشمال. من المنطقي حالياً أن يبحث أهل كلّ منطقة في اليمن عن الصيغة التي تناسبهم. لم يعد مقبولاً أن يعيش أهل عدن في ظلّ فوضى مستمرّة بحجة أنّ المدينة صارت عاصمة «الشرعية» في حين ليس لدى هذه الشرعية ما يكفي من الشجاعة للإقامة في عدن والاهتمام بشؤون أهلها. هل على أهل عدن والمناطق المحيطة بها انتظار تحرير صنعاء من الحوثيين كي يسمح لهم بالتفكير في كيفية استعادة التيّار الكهربائي؟

ليس معروفاً بعد كيف ستنتهي الأمور في عدن، لكنّ من حق أهلها، في الوقت الذي يتراجع فيه الحوثيون في تعز وفيما يتعرّض هؤلاء لمزيد من الضغوط في صعده، التفكير في انفسهم أوّلاً. عليهم التفكير في موقعهم على الخريطة الجديدة لليمن، وهي خريطة لن تُرسم قبل حسم معركة صنعاء التي يبدو أنّها ستكون طويلة. هل على أهل عدن وما حولها وعلى الساكنين فيها وفي المحافظات القريبة انتظار نتائج معركة صنعاء كي ينعموا بحدّ ادنى من الأمن والخدمات العامة؟

لا شرعية لـ«الشرعية» في عدن. هذا عائد إلى أسباب تاريخية أوّلاً. الشرعية الوحيدة هي لمن يستطيع الاستجابة لمطالب المواطنين وإبعاد عدن عن مزيد من العذابات في انتظار اليوم الذي قد يأتي أو لا يأتي... يوم تتبلور فيه صيغة جديدة لبلد تشظّى ولم يعد فيه مركز تُدار منه شؤونه.