صالح الديواني

الفايروس هو (ملف صحيح لأوامر خاطئة)، يُصنع ببراعة للقيام بمهمة خاصة لصالح طرف ما، ويحمل في داخلة بيانات تقوم بعمل تخريبي يستفيد منه الطرف الذي أرسله إلى ميدان المعركة

يتردد حاليا في أوساط المجتمعات البشرية وعلى مستوى العالم بشكل واسع مصطلح «الأمن السيبراني»، وتكتب فيه المقالات وتشرع المواضيع والتحقيقات عن فوائده، لكن ماذا يعني مصطلح «الأمن السيبراني»؟ وما هي السيبرانية؟
تعالوا لنراقب معنى ومفهوم «السيبرانية»، تذكر بعض المصادر أن أول ظهور لمصطلح «سيبراني - Cybernetic» جاء مشتقا من كلمة «كوبرنتيك» ذات الجذور اليونانية القديمة، ويقصد بها تعريف ملاح السفينة الذي يحمل أوامر الربان إلى موجّه الدفة، واستخدم في بدايات القرن التاسع عشر من العالم الرياضي الفرنسي «أندريه أمبير» (1775 - 1836) في كتابه (مقالات في فلسفة العلوم)، حيث عرّفه على أنه «علم إدارة المجتمعات الذي يهيئ للعالم فرصة الاستمتاع بالعالم»، ليعود المصطلح للظهور بشكل أكثر وضوحا على يد العالم الأميركي اليهودي الأصل نوربرت فينر في العام 1948، الذي اختار مصلح «السيبرانية» لوصف نظام التغذية العائدة أو ما يعُرف بـ Feedback ومحاولة التحكم به، وله كتاب في ذلك حمل عنوان «السيبرانية أو التحكم والاتصال في الحيوان والآلة»، لكن المصطلح اليوم يحمل في دلالاته مفهوما أوسع بكثير من ذلك الذي نشأ من أجله. 
أما ما يعنيه مصطلح «الأمن السيبراني» فهو باختصار، منع الاستخدام غير المصرح به لنظم الاتصالات، ومكافحة سوء استغلال المعلومات الإلكترونية، لضمان استمرارية عمل تلك النظم المعلوماتية وتدفقها بشكل صحيح. وتأمين حماية وسرية وخصوصية البيانات الشخصية وحماية الناس من المخاطر على الإنترنت.
ولكن كيف يمكن للجهات الحكومية أن تصمد في وجه المد التكنولوجي الرقمي ما لم تقم بخطوات مهمة على طريق المواجهة، للدفاع عن حدود ونطاق السرية التي تبحث عنها وتؤكد عليها؟
لا شك أنه مع اتساع رقعة التأثير التكنولوجي، وتعدد وسائل الاتصال والتواصل الاجتماعي، احتاجت الحكومات إلى ضبط هذا الانتقال الاجتماعي الذي يشبه الطوفان إلى الحياة الإلكترونية، ورقمنة الأعمال وكل شيء تقريبا في الحياة البشرية، وحتى لا تفقد الحكومات قوة قبضتها على المجتمعات الخاضعة لها، فقد سعت جاهدة لخلق أنظمة موازية تحاول التماهي مع المتغيرات الحاصلة على الأرض من خلال التقنية ذاتها. وهذا بالطبع أحد أهم التحديات في العصر الرقمي الحديث التي تواجهها الحكومات والمؤسسات العملاقة، وحتى الأسر والأفراد العاديين، للحفاظ على خصوصياتهم وأسرار بياناتهم، ومن أهمها الأرقام السرية للحسابات المختلفة، الخاصة بالمستخدمين في البنوك والوزارات والدوائر الحكومية والمواقع العامة والشخصية، وكل ما يتعلق بالفضاء الإلكتروني على الإنترنت، الذي يطلق عليه حاليا الفضاء السيبراني (Cyberspace).
من الواضح أن التحدي ليس هينا على الإطلاق، فالمتطفلون من القراصنة لا شك وأنهم يزدادون خبرة وتنوعا في أفكارهم، ومهارة في طرق عملهم مع مضي الوقت، وهذا ما يزيد من قوة وتنوع الأسلحة التي يستخدمونها، وأولها وأكثرها استخداما برامج التجسس والملفات الفايروسية، وهذه الأخيرة في أصلها ملفات موجهة بإتقان وليست عشوائية كما يظن الكثيرين، فالفايروس هو (ملف صحيح يحمل أوامر خاطئة)، تتم صناعته ببراعة للقيام بمهمة خاصة لصالح طرف ما، ويحمل الملف في داخلة بيانات صحيحة موجهة تقوم بعمل تخريبي يستفيد منه الطرف الذي أرسله إلى (جهاز الضحية)، عبر الإنترنت (ميدان المعركة)، أو الذاكرات الصغيرة المعروفة بالفلاش ميموري. ويقول الفريق الأمني في شركتي «بي تي»، التي تعمل في مجال تشغيل الشبكات وتقديم خدمة الإنترنت، إنهم يكتشفون يوميا ما يقارب 100 ألف عينة من البرمجيات الخبيثة، أي بمعدل 1.15 ملف خبيث في الثانية الواحدة، وهذا رقم مخيف يعبر عن البدايات الحالية الهائلة لحجم التدفق الخبيث، ولكم أن تتخيلوا ما سيكون عليه الحال منتصف القرن الحالي.
ولهذا أظن أن الحكومات بحاجة ماسة أكثر من أي وقت مضى لتدريب كوادر قادرة على فهم واستيعاب نوعية معارك المستقبل وآلياتها وطرق ومعنى الانتصار فيها، إذ إنك ستقود المعركة ربما من على مقعد السيارة -إن كانت هي الأخرى ستبقى على نفس هيئتها الحالية-، فكل علامات المستقبل تقول إن الأعمال والوظائف لن تكون تقليدية مثل ما هي عليه اليوم، وأن المجال الأوسع في الوقت الراهن هو لوظائف التقنية والفضاء الإلكتروني وتحديدا ما يُعنى بالأمن السيبراني، وستنشغل الحكومات بإعداد قوانينه وتشريعاته لتظل في قوالبها التاريخية القديمة، والتي أشك في نجاحها على الإبقاء على نفس هيكلها التقليدي حتى نهاية القرن الحالي وربما منتصفه، فتسارع التحولات ما زال في بدايته على أية حال.
والتنافس الحقيقي اليوم يكمن في قدرة الدول على الاستثمار في المجالات الرقمية، والحصول على طاقات بشرية ذكية ومدربة، تستطيع أن تصنع الفارق، إذ تظهر الفجوة بشكل لافت بين سرعة التقنية نحو المستقبل وبين حركة الكوادر والمواهب الإبداعية التي تستطيع مواكبة تلك السرعة الرهيبة، فأعداد تلك المواهب والطاقات على الطاولة من الواضح أنها قليلة جدا، والسوق الآن تبدو في أزمة حقيقية، وهذه في الواقع نقطة خطرة جدا، بل وأراها أهم ثغرة في جدار برامج الأمن السيبراني للحكومات جميعها، وإذا ما استمر الوضع على السير بنفس درجه البطء هذه فإن ذلك يعني أن كارثة ربما تحدث للبرامج التطويرية أو الانتقالات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، التي رسمتها عدد من الدول لمستقبل أممها، بمرور عقد واحد فقط. 
فالاختراقات الإلكترونية (القرصنة) التي بدأت كهواية وألعاب تسلية بين أطراف محددة، أصبح يديرها الآن محترفون انتهازيون يقبضون مقابلا ماديا مغريا للقيام بهجمات منظمة، وتقف خلفها جماعات إرهابية وحكومات عدوانية تفكر بأنانية، لتحقيق مصالح خاصة، بغض النظر عن ما سيلحق بالمتضرر، ونجاح الاستثمارات لأي بلد في العالم سيكون مرتبطا بمدى قوة وعرض قاعدة المواهب المبدعة في مجال الأمن السيبراني وبناء جيوش المستقبل، فمحارب المستقبل سيكون أكثر أناقة وأكثر وحشية أيضا، فناتج عمله قاتل لمجتمعات بأكملها، بعكس الجندي التقليدي القديم الذي يقتل فردا أو أفرادا في دائرة واحدة، والواضح أن القوانين «السيبرانية» ستتحكم بمستقبل البشرية ووظائفها وترسمها على طريقتها، والتحرك يجب أن يكون في التفكير في كيفية تطويع التكنولوجيا وتسخيرها لخدمة البشرية لا لإنهاء وجود الإنسان في الكون، فقد يكون ذلك بلمسة زر صغير في لحظة متهورة.