أحمد جابر

النزاع الذي تفاقم بين التيار الوطني الحر، وحركة أمل اللبنانية، ليس نزاعاً بين تنظيمين سياسيين، بل هو صراع بين طائفتين سياسيتين، المسيحية والشيعية، وإذا كانت المواجهة معقودة اللواء من الجانب الشيعي، لقيادة رئيس المجلس النيابي، فهذا لا يعني أنه مفرد أو مستفرد في خوض هذه المواجهة، بينما تبدو الصورة من الجانب المسيحي مختلفة، لأن التيار الوطني الحر يصارع من أجل أن تكون معركة استعادة حقوق المسيحيين معقودة اللواء له.

يتيح نظام المحاصصة بقاء نار التنازع مشتعلة بين أصحاب الحصص، ذلك أن تبدل الموازين الداخلية اللبنانية، يجعل القسمة غير مستقرة، وتبدل الموازين الخارجية، المتدخلة بثقل نفوذها في الوضع اللبناني، يدغدغ طموحات المتنازعين الداخليين الذين يرون في كل إشارة خارجية فرصة سماح لعبور مخالف «لقانون السير» الداخلي، أو مناسبة للالتفاف على هذا القانون، إذا ما تعذر تغييره.

 إذن يقوم النزاع اليوم بين توجهين سياسيين مختلفين في النظرة إلى حال التوازنات اللبنانية، ويجد كل توجه مادة تبريره وتسويغه، من حال لبنان الذي انتقل من عهد الوصاية السورية إلى عهد هو نوع من الاستتباع غير المستقر، الذي يشكل العامل الإيراني الإقليمي طرفه الأبرز.

التيار الوطني الحر الذي عاد إلى المعادلة اللبنانية لم يهبط بالمظلة إلى كواليس السياسة وشوارعها، وإذا كانت الصفقة السياسية التي أعادت رئيس التيار آنذاك، العماد ميشال عون، غير معلومة التفاصيل، فإن التحليل السياسي لهذه العودة، لا يقول بخلاصة تعتبر عودة «الرئيس» الذي صار فخامة الرئيس، عودة غير مدروسة، بل إن هذه الأخيرة، وكما اتضح من اليوميات السياسية، كانت موضع عناية ودراسة ودراية... من قبل الذين جعلوا تلك العودة ممكنة أولاً، وجعلوها مقدمة للمشهد السياسي الذي يعيش اللبنانيون في كنفه ثانياً.

وكي لا يقع التحليل في النسيان، تتذكر هذه السطور أن مناسبة خروج الجيش السوري كانت هي السياق السياسي لعودة الرئيس ميشال عون، لكن هذه العودة كانت، على أكثر من وجه، انشقاقية، فالرئيس العائد تمسّك بفكرة أنه «الاستقلالي الأول»، والمنتفض المتقدم، والسيادي الذي دفع ثمن سياديته أعواماً من النفي، على الضد من رغبة شطر واسع من المسيحية السياسية، ورغبة شطر لا يستهان به من بقية اللبنانيين.

ما بعد التوجس الذي أبداه أقطاب الرابع عشر من آذار من عودة الرئيس الغائب، تلقفه بعناية فريق الثامن من آذار... وكان ما كان من سياق سياسي معروف من قبل الجميع. هذا السياق بالذات، هو الذي قادته الشيعية السياسية، بطرفيها البارزين، حزب الله وحركة أمل، وكان من أبرز عناوينه كسب التيار الوطني الحر واستمالته، ثم عقد تفاهم معه من قبل حزب الله، الذي وجد في الرئيس العماد حليفاً داخلياً يستظل رايته المسيحية، في مواجهة الرايات المسيحية المناوئة.

الآن وإذا أردنا فهم بعض أسباب المكاسب التي حققها التيار العوني، سنجد أنه لا مفرّ من الاعتراف بأن «المحدلة الشيعية» مهدت أمام «العونية» عدداً لا يستهان به من المسالك، وأن موقع رئاسة الجمهورية ما كان ليدخله رئيس التيار، لولا صلابة وتصلب أحد «رأسي» الشيعية السياسية، أي حزب الله بوزنه الداخلي، وبقاعدة إسناده السورية والإيرانية... وربما يضاف إليهما قواعد عربية ودولية أخرى.

وصول الرئيس عون إلى موقع رئاسة الجمهورية ما كان له أن ينتهي إلى حالة سكون، بل كان محطة استراحة للانطلاق إلى أهداف أخرى. هذه الحركية التي جعلت تصحيح التمثيل المسيحي عنواناً لها، هي سبب النزاع المباشر مع الشيعية السياسية، نزاع مكتوم أو أخرس مع حزب الله، ونزاع معلن وصاخب مع حركة أمل. نتيجة ذلك صدام مصالح فئوية، فحيث يتقدم التيار المسيحي تعرقل الحركة الشيعية، وحيث يخرج التيار من «عباءة» الشيعية التي رعته، يسارع أصحاب هذه العباءة إلى تذكيره أنه لولا فيء العباءة ما كان للتيار أن يكون حيث هو كائن الآن. هذه حالة مستمرة، ونزاع يهدأ اليوم ليضج غداً، فعصبيات الطوائف ستظل تخوض معركة «الأمر لمن»، وسيجهد كل طرف ليقول: «الأمر لي».


* كاتب لبناني