حسن حنفي 

ما زال تاريخ العلم العربي الإسلامي في وجداننا المعاصر موضوعاً خاصاً في التراث الإسلامي خارج منظومة علومه التي تغلب عليها العلوم النقلية الخالصة، أو العلوم العقلية النقلية: الكلام، والفلسفة، والتصوف، وأصول الفقه في الثقافة العالمة عند الجامعيين في الدراسات الإسلامية. والحقيقة أنها تُكوِّن المنظومة الثالثة من نسق العلوم الإسلامية، العلوم العقلية الخالصة: الرياضية مثل: الحساب، والهندسة، والموسيقى، والفلك، أو الطبيعية مثل الطبيعة، والكيمياء، والطب، والصيدلة، والنبات والحيوان، والمعادن. هذا بالإضافة إلى العلوم الإنسانية التي سماها القدماء علوم اللغة، والأدب، والجغرافيا، والتاريخ.

كانت الفكرة الشائعة أن التراث العلمي العربي الإسلامي جزء من تاريخ العلوم، ولا شأن له بباقي منظومة العلوم، يُدرس في الجامعات تحت عنوان «تاريخ العلوم عند العرب» تقليداً للاستشراق وتسميته التقليدية «العلم العربي» أو تجاوزاً للاستشراق وتسميته «العلوم الإسلامية» إما تحت تأثير المنظمات الإسلامية المعاصرة أو بعد نشأة حركة «أسلمة» العلوم. والحقيقة أنها جزء من العلوم النقلية العقلية خاصة علم الكلام في الطبيعيات، مبحث الجوهر والأعراض، وفي علوم الحكمة، في الحكمة الطبيعية كما هو الحال عند ابن سينا.

أما في الغرب، فإن العلم العربي يدخل كجزء من تاريخ العلم العام بعد العلم اليوناني وقبله العلم الغربي الحديث في مرحلة متوسطة هي العصور الوسطى، إسلامية أو مسيحية أو يهودية، كما أن العلم اليوناني والعربي معاً في مرحلة متوسطة أكبر بين علم الشرق القديم والعلم الغربي الحديث. فقد بدأ العلم في الشرق واكتمل في الغرب. بدأ في الشرق الأدنى واكتمل في شمال غرب المتوسط. أما شمال شرق المتوسط وشرقه وجنوبه فهي مرحلة متوسطة ناقلة للعلم من الشرق إلى الغرب. فكل ما قبل الغرب الحديث في الزمان وخارجاً عن منطقته الجغرافية في المكان هو تاريخ للعلم وليس العلم.

ولذلك كان استئصال تاريخ العلوم عند العرب خارج المنظومة العلمية الإسلامية العامة فيه تقليد لنظرة الغرب للصلة بين العلم وتاريخ العلم. فالعلم يجُب ما قبله. والجديد يلغي القديم إما صمتاً عن المصادر، والترويج لأسطورة أن العلم ظاهرة غربية أصيلة أنشئت على غير منوال! ومع العلم يضاف التقدم والعقل والحرية والديمقراطية!

والحقيقة أن العلوم العقلية الخالصة، الرياضية أو الطبيعية أو الإنسانية لا تنفصل عن المصدر الأول للعلم في الحضارة الإسلامية، وهو الدين. فالعقل أساس العلوم العقلية، والطبيعة موضوع العلوم الطبيعية هما تجلّ للدين في العقل والطبيعة نظراً لوحدة النسق بين الدين والعقل والطبيعة كما كان الحال في الغرب في القرن الثامن عشر.

فقد ساعد التوحيد على تحرير العقل من القطعية والأحكام المسبقة أو تقليد القدماء، فالتقليد ليس وحده مصدراً للعلم، أو التوقف كلية عن البحث العلمي وإعمال العقل في الأشياء والنظر في الموجودات، فالنظر أول الواجبات. وقد تم تحرير العقل من قيود الأهواء مصدر الأحكام المسبقة وتراث القدامى، وهو مصدر التقليد، ومن الكسل والترهل بالحث على النظر في الموجودات والتأمل في الآيات الكونية عن طريق التعالي المستمر، والبحث عما هو أعلى وأبعد وأكثر مفارقة، والتمييز الدائم بين صياغات العلم وحقيقة العلم. فالصياغات متغيرة لأنها اجتهادات بشرية. والحقيقة قصد عام تتجه نحوها كل الاجتهادات. وفي الوقت الذي يتم فيه التوحيد بين الصياغة والحقيقة، بين الشكل والمضمون، بين الظاهر والشيء في ذاته يتوقف العلم.

وكما ساعد التوحيد على التوجه نحو الطبيعة باعتبار أن لها سننها ونواميسها وقوانينها الخاصة تعبيراً عن الحكمة، وبها قصد وغاية، مُسخرة للإنسان، وطيّعة له، طوعاً وإرادة. والإنسان والطبيعة صديقان وليسا عدوين كما هو الحال في بعض التصورات الغربية. والطبيعة ليست خالية من القيمة، يلقي عليهاالإنسان بنفايات المصانع، بل هي مخلوق كالإنسان، وكلاهما متحد في القصد والغاية، يشتركان في قيمة أعلى تجمع بينهما، قيمة التعالي أي البحث المستمر عن الأكمل، أو التوحيد أي تجاوز كل الثنائيات بما في ذلك ثنائية الإنسان والطبيعة، العقل والمادة، النفس والبدن. كلاهما من نظام واحد، تشمله العناية.