محمد الساعد

في مخيم قصي خارج الرياض، وصل على عجل وزير الخارجية الأمريكي هنري كيسنجر ومعه مستشار الأمن القومي للقاء المرحوم الملك فيصل بن عبدالعزيز، دخل كيسنجر من باب الخيمة العربية منحنياً، الجلسة كانت على الأرض والملك في منتصف المجلس وحوله أركان حكمه من أمراء ووزراء، وأمامه قهوة عربية موضوعة على النار تتصاعد منها رائحة البن الزكية.

ارتباك واشنطن جاء فور الإعلان المدوي للسعودية عن قطع إمدادات النفط عن أمريكا والغرب كجزء من ترتيبات حرب أكتوبر 1973، وردا على الانحياز الغربي لإسرائيل ودعما للقضية الفلسطينية، لم يكن قطع النفط سهلا على الحكومات الغربية التي لم تتخيل أنها ستتعرض لمثل ذلك المأزق، إلا أنها لم تفهم عقلية حكام الرياض الذين ينحازون فورا لقضايا أمتهم العربية والسعودية مهما كانت النتائج، نعم يديرونها بسياسة وحصافة إلا أنها صارمة ومؤلمة.

الرسالة من استقبال كيسنجر في المخيم الصحراوي كانت واضحة، فالسعوديون أهل الصحراء قادرون على العودة إلى الخيم والجمال، والاكتفاء بأكل التمر وشرب اللبن لمئات السنين كما عاش آباؤهم آلاف السنين في هذه الصحارى القاحلة دون كلل أو ملل، لكن السؤال الذي يتمدد تمدد النفط في شرايين الاقتصاد الغربي، هل في استطاعة هنري كيسنجر والغرب من ورائه أن يعيشوا ساعة واحدة بدون النفط السعودي.

الزيارة أتت في أعقاب تهديدات أمريكية جدية للسعودية عسكريا، والإشراف المباشر على منابع النفط، بل وصلت التهديدات لدرجة تحرك الأساطيل الأمريكية باتجاه الخليج والبحر الأحمر، وفي لقاء تلفزيوني في الثاني من شهر نوفمبر 1973 في كوبنهاجن بالدنمارك صرح مسؤول سعودي قائلا إن انضمام أوروبا واليابان لأي عمل عسكري أمريكي هو بمثابة الانتحار، بل أكد أن السعوديين هم من سيقومون بتفجير آبار النفط قبل وصول الجيوش الغربية للمملكة، وسيقاومون بكل ما أوتوا من قوة، عندها سينهار النظام الاقتصادي العالمي، لأن أوروبا واليابان ليس لديهما مخزون نفطي يفي بحاجاتهم، كما أن المخزون الأمريكي قد يكفي لفترة وجيزة جدا.

لهذه الدرجة وصلت الأمور بين السعودية وحليفتها أمريكا، لم يكن خلافا سياسيا بل صدام عسكري بين دولة ناشئة ودولة عظمى لم يمض أكثر من 3 عقود على استخدامها للسلاح النووي ضد اليابان.

أكدت الرياض بموقفها البطولي أن مصالحها القومية وواجبها العروبي والإسلامي يحتم عليها الوقوف أمام الانحياز الأمريكي غير المبرر لإسرائيل مهما كانت النتائج، الرياض التي ضحت بلقمة عيشها من أجل الأشقاء، لم تجد فيما بعد إلا الجحود والنكران والاتهامات.

لقد كان تهديدا جديا، وانعطافا خطيرا في العلاقات الدولية، السعودية لوحدها تجابه أمريكا وأوروبا واليابان.

وسنروي هنا تفاصيل ما حدث استنادا على ما نشر من وثائق إثر تسارع الأحداث مع اشتعال الجبهتين المصرية والسورية..

في أغسطس 1973 التقى الملك «فيصل» بالممثّل الأمريكي لشركة «أرامكو» حيث كانت ملكية الشركة لا تزال مشتركة بين الجانبين السعودي والأمريكي - أممت فيما بعد وأصبحت ملكية خالصة للسعوديين -، فأخبره أن الرياض ستستخدم سلاح النفط للدفاع عن القضية الفلسطينية.

في سبتمبر 1973 زار الملك «فيصل» السفارة الألمانية في الرياض ليؤكد على ضرورة أن تسعى ألمانيا لإقناع الغرب بالحياد في القضايا العربية، 9 أكتوبر كان وزير الدولة للشؤون الخارجية «عمر السقاف» في الأمم المتحدة وهدد بقطع النفط.

وفي 10 أكتوبر أخبرت السعودية الأردن أنها سترسل كتيبة إلى سورية للمشاركة في الحرب، ووصلت الكتيبة بالفعل وشاركت بضراوة في قتال الجيش الإسرائيلي، وفي الدفاع عن الجولان السورية.

في 19 أكتوبر طلب الرئيس الأمريكي «ريتشارد نيكسون» من الكونجرس اعتماد معونة عسكرية عاجلة لدعم إسرائيل بمبلغ 2.2 مليار دولار، كان التطور دراماتيكيا ولا يمكن قبوله كما المعونات السابقة، سارعت السعودية فورا لإعلان قطع النفط عن أمريكا.

قُسمت الدول المستهلكة للنفط لـ3 أقسام، دول تقاطع بالكامل وهي الدول التي تسلح إسرائيل ولا تنال من نفط السعودية شيئا، «أمريكا وهولندا والبرتغال»، ودول أدانت إسرائيل وتنال حصتها كاملة كما كانت قبل الحرب، وهي «بريطانيا وفرنسا وإسبانيا»، ودول لم تنحز للعرب، وستتأثر بالنقصان الشهري المتصاعد لإمدادات النفط، وهي بقية دول العالم.

تلك ليست نهاية القصة في علاقة «الصداقة والمواجهة والندية» بين الرياض وواشنطن، وأفضل من وصفها هو السفير السعودي الأسبق في واشنطن الأمير بندر بن سلطان في لقاء مع الزميل تركي الدخيل، حين قال: تكتشف أي إدارة أمريكية جديدة أن المملكة العربية السعودية تعمل في سبيل الخير «ما هو» في سبيل الشر، وكلمتها صادقة، إذا وعدنا وفينا، وإذا قلنا «لا» نعني «لا»، ولسنا مثل غيرنا يقول نعم ولا في نفس الوقت.