محمد المختار الفال

 منذ انطلاق الثورة السورية، وعلى امتداد منعطفاتها الصعبة ومحطاتها الحرجة، طرحت عشرات الأفكار والمبادرات ونوقش العديد من «السيناريوات» المحتملة، وكان «التقسيم» حاضراً في كل ذلك، يتقدم ويتأخر بحسب الوقائع على الأرض وزاوية النظرة وما تعتمده من مدافعات ومرافعات، وكان «سيناريو» التقسيم يستند في تحليله على فشل المعارضة والنظام في تحقيق انتصار يرغم المهزوم على الإذعان لشروط المنتصر، وزاد من قوة حجة القائلين به انتقال القضية من مسألة شعب ثار ضد جلاديه إلى «ملف دولي» دخل في تعقيد «المقايضات» الإقليمية والدولية، ولم يعد الهدف الأساس معالجة التناقض بين تلبية حق الشعب السوري في رفض الظلم وتمسك النظام بالبقاء.

ومن الواضح غياب العرب عما يجري الآن في سورية، كما تغيب المعارضة المستقلة عن المشاركة في تمثيلية «سورية الديموقراطية غير الطائفية القائمة على المواطن المتساوية» كما أعلن عنها «محركو العرائس» في سوتشي الروسية. وبات الحديث عن حلول تضمن وحدة الأراضي تحت ظل نظام ديموقراطي كلام لا يستحق الالتفات إليه، بل يثير الشفقة والاشمئزاز من رافعي لافتاته، فالواقع السوري يقول إن مشروع التقسيم يجري تنفيذه، عملياً، على أرض الواقع، فالمنطقة الشمالية، غرب نهر الفرات بين إقليم اسكندرون وجرابلس، تعمل فيها تركيا بهمة ونشاط للسيطرة عليها حماية لحدودها ومنع قيام أي وجود يتعارض مع هذه السيطرة، ومنطقة الساحل أصبحت تحت الوصاية الروسية بعد أن بنت فيها قواعدها البحرية والجوية، والولايات المتحدة تعمل، من خلال أدواتها الكردية، لإحكام سيطرتها على منطقة شرق الفرات لتبقى قريبة من العراق الذي لا تريد الخروج منه على رغم تغلغل إيران في مفاصله، وبقي نظام بشار، وغطاؤه الإيراني، مسيطراً على غالبية المدن الكبرى، على رغم ما يواجهه من جيوب مقاومة لم تمكنه روسيا من القضاء عليها قبل «ترتيب» الصورة الختامية وتوزيع المكاسب على العاملين النشطاء في الميدان، وهناك، على هذه الخريطة الممزقة، ندوب المنظمات الإرهابية والمتطرفة المتعاونة مع النظام، تعاطفاً أو خوفاً أو حاجة، موزعة على أكثر من بقعة، والجزء الوحيد الذي يبقى متأرجحاً حيران هو الجزء الجنوبي الذي لم يتقرر مصيره بعد، وهو أكثر أجزاء سورية تأثراً بما يجري على الساحة الفلسطينية.

هذه الخريطة الجغرافية والديموغرافية، هي ترجمة للمواقف السياسية للدول الموجودة على الأرض، فمنذ التحرك الروسي وخطواته العملية وتراجع الدور الأميركي وتبدل الموقف التركي، بعد سوء العلاقة مع واشنطن وآثارها على دول المنطقة ومواقعها من القضية وما يتصل بها من مسائل إقليمية، تحركت القوى الثلاث (روسيا - تركيا – إيران) لترتيب ملفات القضية، وتولت روسيا زمام المبادرة وجلست في مقعد القيادة للالتفاف على قرارات المجتمع الدولي ولحماية حلفائها الجدد والأقدمين من قرارات مجلس الأمن، ووعدهم بالحصول على ما يطمحون إليه، وكان من الواضح أن المرحلة اقتضت من كل طرف إعادة حساباته وتعديل مشاريعه وفق المعطيات الجديد، فطهران ستكتفي «بجائزتها» التي استماتت في سبيلها وجوعت الشعب الإيراني من أجلها وهي المحافظة على نظام الأقلية في دمشق، الذي يصل أسبابها بالضاحية الجنوبية في بيروت ويضمن استمرارها مع تثبيت الجسور الممتدة من بغداد، وهي في هذه المرحلة بدت وكأنها مقتنعة بما حصلت عليه من «القيادة الروسية» بعد أن كانت تريد «التهام» كل شيء وإظهار انتصارها على مفهوم «الأمن العربي» الذي فقد حقيقته وتأثيره على الواقع بسبب حال الضعف التي مزقت أوصاله وأوهنت عزائم أهله وفرقت كلمتهم.

وتركيا، التي أعلنت مراراً أنها لا تريد التوسع، سمح لها بالتحرك على الأرض السورية لتأمين ما تقول إنه ضرورة لأمن حدودها الجنوبية، وهي الحركة التي تضيف إلى علاقاتها مع الولايات المتحدة، عقداًَ جديدة تشجعها المواقف الروسية والإيحاء الإيراني الذي يستفيد من توتير العلاقة بين أنقرة وواشنطن في ظل التصعيد الذي يلوح به ترامب، وبدت أنقرة، في هذه المرحلة، بعد اختفاء العرب من المشهد، أنها مناصرة لجيش سورية الحر الممثل للمعارض المستقلة، وهي، في الحقيقة، لا تطمع في أكثر من تأمين حدودها الجنوبية والاحتفاظ بتفهم روسيا لهذا الهدف والالتقاء مع إيران في الموقف المعارض لقيام أي كيان كردي على حدودهما. وتبدو واشنطن، هي الأخرى، تريد نصيبها من «سورية المقسمة» في الواقع، المحتفظة بعنوان: «وحدة الأراضي»، على رغم أنها عملياً ماضية في سياسة أوباما الذي سلم كل الملف إلى بوتين في صفقة تتصل بأوروبا الشرقية.

ولا يحتاج المراقب إلى كبير جهد ليفهم لماذا اقتصرت المرحلة الأخيرة من ترتيب أوضاع سورية على روسيا وتركيا وإيران؟ ولماذا اختفى الصوت العربي من المشهد؟ الأمر في غاية الوضوح: القضية دخلت مرحلة «التصفية» وتقسيم الغنائم ومن ليس له قدرة على أخذ سهم فليس له مكان، حتى إن مسار المفاوضات الجديد «المفروض» على السوريين الذي بدأ بآستانة وذهب إلى «سوتشي» لم تراع فيه موسكو أصدقاءها العرب القدماء والمتطلعين إلى بناء علاقات جديدة معها، وتدعوهم إلى هذا المسار الذي ألغى، واقعياً، «مسلسل جنيف» الذي رعته الأمم المتحدة، وإذا بها تذهب لتعطي مؤتمر «سوتشي «مشروعية» أممية ما كان يتمتع بها، وتمهد ليكون بديلاً ينسف المبادئ المقررة منذ «جنيف1»!

أمام هذه الصورة يصبح الحديث عن سورية الديموقراطية الموحدة غير الطائفية المعتمدة على المواطنة المتساوية ضرباً من الأحلام والأماني أو العبث المراد به «الاستهلاك» والتغطية على عجز الأمم المتحدة وإطلاق يد روسيا، ومن قبل أن يسير في ركابها بحكم المصالح أو الظروف، لتمرير أجندة باتت ملامحها واضحة.

سورية «الديموقراطية القائمة على المواطنة المتساوية» تتطلب أكثر مما يجري حالياً على أرضها، تحتاج عودة الملايين المهجرين إلى بيوتهم ومناطقهم وإعادة بسط الأمن وتوفير الاستقرار إلى ربوعهم قبل الحديث عن أي ترتيبات تفضي إلى انتخابات، وإذا توافرت الأسباب الموضوعية لانتخابات حرة نزيهة فإن نتائجها، قطعاً، ستخالف التقسيم الواقع على الأرض، وهذا معناه، عملياً، أن «جوائز» المنتصرين ستذهب من أيديهم وهو مخالف لطبيعة الأشياء، فلن تفرط روسيا في مكاسبها، ولن تتنازل طهران عن «جائزتها»، وستتمسك تركيا بنصيبها، وتتشبث واشنطن بحق حلفائها الأكراد في ما تحت أيديهم. وهكذا يبدو التقسيم هو الواقع حتى وإن تغطى بعناوين الوحدة والمساواة.