يوسف شيخو 

الحملة العسكرية التركية في منطقة عفرين، والتي كانت متوقعة منذ فترة طويلة، انطلقت بعد أشهر من التحضير والتردد تخللها تهديدات متواصلة من جانب المسؤولين الأتراك. كانت أنقرة بحاجة إلى موافقة موسكو، التي أطلقت أخيراً يد تركيا في المنطقة بعد سحب قواتها. ويبدو أن تركيا لجأت إلى الخيار العسكري وأجبرت على إدخال قواتها إلى المنطقة، مقابل تنازلات قد تؤثر في تحالفاتها ومصالحها على المدى الطويل، وذلك لأنها لم تكن قوية بما فيه الكفاية، أو ربما لم تملك وسائل ضغط فعالة، لإجبار واشنطن وموسكو على احترام مصالحها في سورية.

حين بدأت الحملة العسكرية، يوم 20 كانون الثاني (يناير) الفائت، رجح الكثير من المحللين والمراقبين، وخاصة الغربيين، سيطرة تركيا على المنطقة، وإن توقع البعض انتصاراً سريعاً لتركيا في حين ذهب آخرون إلى أن السيطرة الكاملة قد تحتاج إلى أشهر. وهناك سيناريوات مختلفة في حال سيطرت تركيا على المنطقة، ومن بينها إنهاء وجود «وحدات حماية الشعب» (YPG) في عفرين، وتوسيع المنطقة التي تسيطر عليها تركيا (الباب وجرابلس وأعزاز).

ومن ثم إعادة توزيع الفصائل الموالية لتركيا، المتواجدة حالياً في إدلب، إلى عفرين، تحت الحماية المباشرة لأنقرة، في حين ستبقى «هيئة تحرير الشام» معزولة ومحاصرة في إدلب. إذا تمت السيطرة على عفرين، ستسيطر تركيا مباشرة على قوات المعارضة المتبقية في شمال غرب سورية، وتالياً تقدم نفسها باعتبارها المحاور المباشر الوحيد للتشكيلات المسلحة خلال مفاوضات السلام. فمع هجوم عفرين، تهدف تركيا إلى إقناع الولايات المتحدة بالتخلي عن الأكراد، الذين سيتحولون لحلفاء معزولين كثيراً في السياق الإقليمي، وتالياً ربما لن يعودوا قادرين على دفع المصالح الأميركية.

ويبدو أن هناك مخطط معد مسبقاً لتنفيذ حملة عنيفة هدفها تهجير سكان المنطقة؛ غايته تحقيق تغيير ديموغرافي، وأعلنه المسؤولون الأتراك صراحة تحت مسميات وحجج مختلفة. في حال سيطرت تركيا على عفرين، ستكمن أهمية هذا التوغل في التحديات المستقبلية الخاصة بعلاقاتها مع القوى الأجنبية المستثمرة في مستقبل سورية: روسيا وإيران والولايات المتحدة. قد تكون إيران غير راضية عن تحرك تركيا نحو عفرين بسبب التهديد الخطير، طويل الأمد. فتركيا ووكلاؤها يمكن أن يهددوا حلب، والجيوب الساحلية ذات الغالبية السكانية العلوية، وحتى قطع وصول إيران إلى البحر المتوسط. لكن قد تكون مشكلة إيران هي عدم امتلاكها النفوذ الكافي على تركيا عندما يتعلق الأمر بعفرين وخاصة في ظل الضوء الاخضر الروسي. فلا يوجد جنود إيرانيون هناك، والقوات الجوية الإيرانية محدودة، ولا يزال برنامجها المحلي لتطوير الصواريخ غير متطور نسبياً. وبالتالي قد لا تخشى تركيا أي انتقام إيراني محتمل حيال تحركاتها. وفي حال حدوث أي مواجهة بين وكلاء طهران وأنقرة قد تتركهما موسكو يتواجهان وإن عبر الوكلاء.

يذهب بعضهم إلى القول إن الهجوم التركي على عفرين هو تأكيد على أن العلاقات بين أنقرة وموسكو بدأت تتعمق. فأردوغان يتجه لموسكو، لا لواشنطن أو برلين أو باريس، لأنه يجد في الكرملين فقط شخصاً مستعداً لاستيعاب مصالحه و «مصالح أمته» بجدية، وإن كان هناك مقابل يجب أن يدفعه الأتراك. ويعتقد أصحاب هذا الرأي أن طهران أيضاً تدعم عملية عفرين، وإن كان موقفها غامضاً بعض الشيء. وأن صناع القرار في طهران بدأوا ينظرون إلى وحدات حماية الشعب كتهديد خطير لأمن إيران، وكوكيل أميركي على حدودهم. كما أن توسع الهوة وزيادة التوتر بين واشنطن وانقرة بسبب العملية العسكرية سيسعد موسكو وطهران.

لكن على رغم الخطاب الأميركي العام، قد تكون واشنطن راضية عن العملية التركية؛ التي ستكبح النفوذ الإيراني في سورية. فعلى رغم تباين مصالح تركيا والولايات المتحدة في الشرق الأوسط، لا تزال هناك مجالات من التداخل حيث سيجد الطرفان فرصاً للتعاون. واحدة من هذه الفرص تكمن في منطقة عفرين. السبب الحقيقي لتشكيل أميركا جيشاً جديدا في سورية هو التحضير للمرحلة المقبلة من الصراع، الذي سيهيمن عليه تحالفان أساسيان: روسيا وإيران والأسد من جهة و تركيا والفصائل المقاتلة والإسلاميين من جهة ثانية. لا تملك الولايات المتحدة سوى تأثير محدود على هذين التحالفين الرئيسيين، ولذلك يجب أن تضع مساراً مستقلاً عنهما إذا أريد لها أن تحافظ على وجودها في المنطقة. لا تريد أميركا أن يسيطر أي من التحالفين على مساحات واسعة من سورية. وبالتخلي عن عفرين، قد تحصل واشنطن أخيراً على ما تريده: تركيا ستتدخل اكثر في اللعبة وتؤمن وجوداً يمكن أن يستمر في تهديد الأسد، وبالتالي تهديد مصالح روسيا وإيران في الشرق الأوسط. ورغم نفور واشنطن من استخدام تركيا للجهاديين، فإنها لا تريد أن يستعيد الأسد السيطرة الكاملة، ما سيعزز موقف إيران وروسيا. السماح بغزو عفرين، في وقت توسع فيه أميركا دعمها لقوة كردية في شمال شرقي سورية، سيحل هذه المشكلة، حتى لو على حساب أكراد عفرين.

قد يستفيد حلف ال»ناتو» من العملية التركية في عفرين. فخوفه الحقيقي هو روسيا، وإذا أستعاد الأسد السيطرة على كامل سورية، فإنه سيقوي موقع روسيا (وكذلك إيران) في الشرق الأوسط. فأوروبا راضية تماما عن مسالة إبقاء موسكو مقيدة في الشرق الأوسط، حيث تستخدم روسيا على الأقل جزءا من تركيزها ومعداتها العسكرية بعيدا عن الحدود الأوروبية. وانخراط روسيا الطويل في الشرق الأوسط وصعوبة الخروج منه؛ سيضر بصورة بوتين ويكون مكلفا لروسيا، وهو انتصار واضح لل»ناتو»، خاصة إذا لم يضطر الحلف إلى استخدام قواته وموارده لتحقيق ذلك. كما أن تركيا تريد استقلالية في حملتها العسكرية (من دون أن تملي عليها واشنطن أو الناتو خياراتها). لتحقيق أهدافها العسكرية، والتي لا تشمل فقط الأكراد، بل أيضاً مراقبة طموحات إيران وروسيا في سورية. وسيطرة تركيا على عفرين يعني أنها ووكلائها سيحاصرون حلب من 3 جوانب، ما سيشكل خطراً على الأسد، حليف روسيا الإقليمي. والـ «ناتو» سيكون سعيداً جداً بأن تقوم تركيا بتحقيق ذلك لوحدها، من دون أن يتحمل الحلف أي تكلفة. وإذا ما أصبحت حلب محاطة من قبل تركيا ووكلائها، فإن روسيا ستضطر إلى مواصلة دعم الأسد من خلال مهاجمة وكلاء تركيا.

تقول «وحدات حماية الشعب» إنها رفضت عرضاً روسياً بوقف العملية التركية مقابل تسليم عفرين إلى دمشق. هذا العرض يمكن أن يبقى على الطاولة في الأيام أو الأسابيع المقبلة. وهذا قد يسمح للأسد بضرب عصفورين بحجر واحد: استكمال الهجوم على إدلب، ومنع تقدم المسلحين الموالين لتركيا في عفرين. لكن هناك سيناريو يستبعده معظم المراقبين وهو انتصار الوحدات الكردية في عفرين. وبحسب مايكل روبن، وهو مسؤول سابق في البنتاغون، وسبق أن رفع أردوغان دعوى قضائية ضده بتهمة «إهانة رئيس الجمهورية»، فإن الأجهزة العسكرية والأمنية التركية تفتقر للخبرة والتدريب والانضباط بعد عمليات التطهير التي أعقبت محاولة الانقلاب، موضحاً أن واحداً من كل 4 طيارين أتراك في السجن، وأن العديد من طياري F-16 يفتقرون إلى التدريب والخبرة. في حين تتميز القوات الكردية بالتماسك والانضباط والخبرة، ويمكن أن تكون خصما شرساً ضد تركيا، وخاصة في مناطقها. ويرى روبن أن القوات التركية تتحرك إلى عفرين ضد خصم أقوى مما يتوقعه أردوغان، ويمكن أن تكون نتائج العملية «كارثية» عسكرياً واقتصادياً بالنسبة إلى تركيا.