مصطفى زين

 يخلص الكاتب البريطاني باتريك رايت في مؤلفه الجديد «ما وراء الخطوط الديبلوماسية» إلى أن رئيسة الوزراء السابقة مارغريت ثاتشر كانت «أسيرة الفوبيا الألمانية»، وتعتقد بأن لندن ما زالت عاصمة الإمبراطورية العظمى التي لا تغيب الشمس عن ممتلكاتها. وانطلاقاً من قناعتها هذه سعت إلى أن تكون جنوب أفريقيا دولة للبيض وحدهم، ودعت إلى دفع سكان القوارب الفيتناميين إلى عرض البحر ومنعهم من الوصول إلى هونغ كونغ، قبل أن تسترجعها الصين. ويتابع الديبلوماسي السابق أنها كانت تشعر بأن الناطقين بالألمانية سيهيمنون على أوروبا و «أي حديث عن توحيد الألمانيتين كان لعنة بالنسبة إليها».

واقع الأمر أن «فوبيا ثاتشر الألمانية» متجذرة في بريطانيا منذ الحربين العالميتين تغذيها الكتب والأفلام والميديا بكل أنواعها، يضاف إليها الحذر من فرنسا التي وقف رئيسها شارل ديغول ضد دخول لندن السوق الأوروبية المشتركة، وكان يقول إنها «تكره أوروبا وانتسابها إلى السوق سيدمرها». ولم تقبل عضويتها في هذا التكتل إلا بعد موته، ثم انضمت إلى الاتحاد وسمح لها بالاحتفاظ بعملتها. وتأكيداً لقول ديغول و «الفوبيا الألمانية» تقف بريطانيا ضد أي مسعى لتشكيل جيش أوروبي موحد، خوفاً من سيطرة برلين وباريس عليه، مفضلة تعزيز الحلف الأطلسي بقيادة «أبنائنا عبر المحيط»، على ما كانت تقول ثاتشر.

وينتقد السفير الألماني في لندن بيتر أمون هذه الثقافة فيقول إن «التركيز في المملكة المتحدة على أنها وقفت وحيدة ضد هيمنة ألمانيا أفاد المتشددين ضد أوروبا، لكن ذلك لا يحل مشكلاتها المعاصرة». ويوضح أن «هؤلاء المعادين لأوروبا ما زالوا يعيشون مرحلة الحرب العالمية الثانية، ويتجاهلون دور الحلفاء في الانتصار» على النازية، و «حين يقر بعضهم بهذا الدور ينسب الفضل إلى أميركا».

تشكل هذه الرؤية البريطانية إلى الذات وإلى أوروبا خلفية المفاوضات لخروج لندن من الاتحاد الأوروبي، ويبدو التركيز على الجوانب الاقتصادية بالنسبة إلى مؤيدي «بريكزيت» مجرد غطاء لهذه الخلفية ولإقناع مؤيديهم بأن بروكسيل تفرض عليهم قوانينها وبأن حكوماتهم المتعاقبة أفقدتهم السيادة، وأتت الفرصة الآن لاستعادة الهوية الوطنية.

ويشير الكاتب غاري يونغ إلى عدد من العنصريين البريطانيين المعادين لأوروبا الذين لعبوا دوراً فاعلاً في الاستفتاء على الخروج من الاتحاد، مثل المسؤول في حزب «الاستقلال» دوغلاس كارويل الذي نشأ في أوغندا، وآرون بانك الذي يمول الحزب وأمضى طفولته في جنوب أفريقيا، حيث كان والده يدير مزارع لإنتاج السكر، كما يدير مزارع أخرى في كينيا وغانا والصومال. وهناك زعيم هذا الحزب اليميني المتطرف هنري بولتون الذي ولد ونشأ في كينيا، فضلاً عن المسؤول عن الميديا خلال حملة «بريكزيت» روبرت أوكسلي الذي لعائلته علاقات وطيدة مع زيمبابوي. ولا ننسى في هذا المجال زعيم الحزب السابق النائب في البرلمان الأوروبي نايجيل فراج الذي يرفع شعار استعادة الهوية الوطنية البريطانية، ويسعى إلى استبدال العلاقات التجارية والسياسية مع بروكسيل بتمتين العلاقات أكثر مع الولايات المتحدة، وكان الرئيس دونالد ترامب اقترح على لندن تعيينه سفيراً في واشنطن.

الذين يحنون إلى أمجاد الإمبراطورية العظمى اعتمدوا في حملتهم المضادة لأوروبا على الأرياف والعجائز الذين ما زالوا يعيشون في الماضي، بينما المدن الكبرى والعاصمة تحديداً تتجه إلى المستقبل، ولم يصبها رهاب الأجانب، وأهم مؤشر إلى ذلك أن عدد مؤيدي البقاء في الاتحاد كان النصف تقريباً (48 في المئة). أي أن المملكة المتحدة تخوض صراعاً داخلياً بين الماضويين الذين ما زالوا يعيشون زمن الاستعمار وسيادة الرجل الأبيض في مختلف القارات، والذين يتطلعون إلى علاقات متوازنة مع جيرانهم. أي أن الصراع يتمحور بين العنصرية المتوارثة والمعاصرة. وما شوفينية الذين نشأوا في أفريقيا، ومر ذكرهم سابقاً سوى تأكيد لطبيعة هذا الصراع.

المشكلة الآن أن معظم الذين يقودون المفاوضات مع الاتحاد الأوروبي يشكلون صدى لعظمة الإمبراطورية. ومن يجرؤ منهم على الخروج من هذا الوهم (في مقدمهم) تيريزا ماي، يهدده العنصريون بإطاحته من موقعه. وقد أصبح الصراع على المناصب بين زعماء الحزب الحاكم أساس اللعبة السياسية الداخلية والخارجية. فوزير الخارجية بوريس جونسون وعدد من النواب اليمينيين المتطرفين يهددون رئيسة الوزراء بإطاحتها إذا «تساهلت» مع بروكسيل، مستخدمين ترسانتهم التاريخية لتأليب الرأي العام ضدها وضد أوروبا كأن بروكسيل تحتل لندن، أو كأن ألمانيا أنغيلا مركل تستعد لشن حرب عالمية ثالثة عليها.