زياد الدريس

 إنه أبي، الذي عاد إلى بيتنا أمس بعد غيابٍ طال بين المستشفى لشهرين إلا قليلاً.

عاد بحمدالله إلى بيتنا (الرجل) الذي انكمش بيتنا في غيابه، وتيبّست الأبواب المغلقة حنيناً إليه، واشتاقت فناجيل القهوة الجافة إلى رطوبة أضيافه.

عـــاد الرجــل الذي يحرّك رجولتنا المتــــصاغرة أمامه، ليس لأننا لسنا رجالاً ولكن لأن الحـــبل الـــسري لرجـــولتنا ما زال مربوطاً به.

إذا كان قد قيل: «يظل الرجل طفلاً حتى تموت أمه»، فإنه يمكنني القول أيضاً: يظل الرجل ولداً حتى يموت أبوه!

فبعد أن أصبحتُ، أنا وإخوتي، آباءً وأجداداً منذ سنين وظننّا بأننا تجاوزنا مرحلة البُنوّة، جـــاءت وعكة أبي لتلفتنا إلى وعكتنا نحن (الأولاد) الذين ظنوا، في مسار تطور وارتقاء الحياة، أنهم تجاوزوا إحدى مراحل التطور العُمري للإنسان.

نعم، يصدق ذاك الشعور على الذين فقدوا آباءهم بالمـــوت، لكنه لا يصدق على الذين افتقدوا آباءهم، في مستـــشفى أو ســجن أو غربة.

الأب هو عمود الخيمة التي يستظل تحتها الأبناء، فإذا سقــط العــمود وجب على الأبناء إعادة تصميم الخيمة، من دون عمود في وسطها، أو استبدالها بنوع آخر من المأوى.

يصدق هذا الوصف على كل الآباء، لكنه يصدق أكثر على أبي ... أو هكذا يُخيّل إليّ!

ظل أبي، حتى بعد تجاوزه التسعين من عمره الآن، المتوازن في تديّنه من غير تطرّف أو تعنيف. والمتوازن في وطنيته من دون عنصرية أو استعلاء. والمتوازن في تكسّبه من غير كسلٍ أو جشع. والمتوازن في مصاريفه من دون تقتير أو تبذير.

وظل أبي الشاعر، المتوازن في شعره من غير هجاء أو استجداء.

لأنه أبي فقط أحببناه، ولأنه ذلك الرجل المتوازن أُعجبنا به، وأَعجَبنا له هذا السيل من الدعوات والمشاعر التقديرية من زواره في المستشفى ومن ذاكريه في الصحف ووسائط التواصل، فهنيئاً له بهذا الحب والإعجاب، وهنيئاً لنا به.

قد يرى البعض هذا المقال رثاءً مبكراً لأبي، أطال الله عمره،

هو في الحقيقة رثاء بالنيابة عن الذين مات آباؤهم.