غسان العزي

يسود القلق في الدول الغربية عموماً من الصعود المتنامي لأحزاب اليمين المتطرف، التي باتت تسجل في كل انتخابات تقدماً يدفع أحزاب اليمين واليسار التقليدية المتخاصمة في ما بينها، إلى التحالف وتشكيل ائتلاف حكومي يقطع الطريق على هذا اليمين، الذي يشكل وصوله إلى السلطة، إن حصل، تهديداً للديمقراطية؛ بل ربما تمهيداً لعودة زمن النازية والفاشية البائد.


هناك منذ عدة سنوات، موجة من الحركات الاحتجاجية تهز الديمقراطيات الأوروبية، وتزعزع استقرار الأحزاب السياسية الحاكمة وتدعو لإعادة النظر في الأشكال التقليدية لدولة القانون، وقد أدت إلى صعود قوى شعبوية في معظم بلدان القارة العجوز، قبل أن تصل إلى الولايات المتحدة نفسها، حيث إن انتخاب دونالد ترامب يرى فيه محللون كثيرون، تأكيداً لمدى اتساع هذا الاستياء الشعبي حيال الأحزاب التقليدية الحاكمة. هذه القوى اليمينية المتشددة، وصلت إلى السلطة في أوروبا الوسطى، بولونيا وهنغاريا تحديداً، وتسببت بفوز البريكست في بريطانيا، ونجاح اليمين المتطرف في النمسا، وكشفت عن قوة لا يستهان بها في فرنسا وهولندا وإيطاليا.
على خلفية هذا التوجس من صعود الشعبويات والأحزاب اليمينية المتطرفة في قلب الديمقراطيات الليبرالية، وفي محاولة لفهم طبيعة الاستياء الشعبي الذي تستفيد منه في صعودها المتنامي، أطلقت مؤسسة التجديد السياسي الفرنسية، في العام الماضي، تحقيقاً واسعاً في ست وعشرين دولة، حول نظرة الرأي العام في هذه الدول للقيم الديمقراطية السائدة. 
وفي 25 يناير/كانون الثاني الماضي، خرجت نتائج هذا التحقيق لتوضع أمام أساتذة في العلوم السياسية لتحليلها. والسؤال الأساسي الذي طرحه هؤلاء الأساتذة: إلى أين تتجه الديمقراطية؟
شملت الدراسة 23 بلداً في الاتحاد الأوروبي، إضافة إلى النرويج وسويسرا والولايات المتحدة، وضمت العينة 22 ألف مواطن أجابوا عن ستة وثلاثين سؤالاً تضمنتهم الاستمارة الاستبيانية، حول درجة الثقة أو عدمها حيال المؤسسات السياسية، وحول تطلعاتهم المحتملة إلى نماذج حكم بديلة.
وبيّنت النتائج أن هناك فقداناً واضحاً للثقة بالأحزاب السياسية، تحديداً لدى الفئات العمرية الشابة. فقط 20%من الأشخاص الذين تم استطلاع آرائهم يثقون بالأحزاب السياسية، وأغلبية هؤلاء يطلقون أحكاماً سلبية على طريقة عمل الديمقراطية، أو يعتبرون أن أنظمة سياسية أخرى ربما تكون مناسبة أكثر لبلدهم. 36% من المستطلعين يذهبون إلى حد القول، إن حاكماً قوياً ربما يكون أمراً جيداً لبلدهم. ومعظم المستطلعين يعتبرون رجال السياسة فاسدين، ويدافعون عن مصالحهم الخاصة ولو على حساب المصلحة العامة. 
وحول كل المسائل فإن الفئات العمرية الشابة تبدو أكثر انتقاداً للسياسيين من الفئات الأكثر تقدماً في العمر، ما عدا الولايات المتحدة، حيث تمكن الشباب من تجنب الوقوع في ظاهرة «الاهتراء الجيلي»، وهو تعبير استخدمه أساتذة ساهموا في تحليل نتائج الدراسة، يعتقدون بأن انتخاب ترامب ربما يكون هو الذي أعاد الحيوية لفئة الشباب التي يفتقد إليها الأكبر منهم سناً.
وبمعزل عن الاختلافات بين بلد وآخر، فإن الرأي العام في ست وعشرين دولة، يتقاسم القناعات نفسها تقريباً حيال النموذج الديمقراطي المتهالك، ويطرح الكثير من التساؤلات والشكوك حول مستقبله. وفي إيطاليا على سبيل المثال، لا تزيد نسبة الثقة بالأحزاب السياسية على 5%، وبالبرلمان عن 11%، وبالدولة عن 19%. عدم الثقة هذا ينسحب على الاتحاد الأوروبي، الذي يعتقد الإيطاليون بأنه تخلى عنهم في مواجهة موجات الهجرة واللجوء. 
وفي أوروبا الوسطى يبدو «التراجع الديمقراطي» واضحاً في هنغاريا وبولونيا وجمهورية تشيكيا، ويتمحور حول مسألة الهوية والنظر إلى الاتحاد الأوروبي كمحرك ل«ليبرالية مجتمعية»، تتسبب في «حرب ثقافية»، بحسب تعبير الدراسة المذكورة.
هل ينبغي التوجس من هذه النزعات التي تترجم ظاهرة عابرة للقارة الأوروبية وللأطلسي كذلك، والتي يمكن شرحها بالعودة إلى سقوط الشيوعية ثم تفجيرات 11 سبتمبر 2001، أو فشل الاستفتاء على الدستور الأوروبي في عام 2005؟ 
الجواب الذي تقدمه الدراسة هو تأكيد أن هذه النزعات تغذي «فرضية اهتراء ديمقراطي»، بحسب تعبير دومينيك رينيه، أستاذ العلوم السياسية الفرنسي، لكن «الوهم» الذي تكشف عنه حيال الديمقراطيات، يمكن تأويله كتعبير عن علاقة بالنظام الديمقراطي القائم فيها الكثير من التشكيك والانتقاد، وعن تطلع إلى المزيد من الديمقراطية. 
فالأجيال الجديدة، لأنها أضحت أكثر تعلماً، صارت أكثر فأكثر تطلباً، وعدم رضاها الذي تعبر عنه، قد يكون إشارة إلى تعلقها بالقيم الديمقراطية المنتهكة في رأيها. مطالبها تغدو والحال هذه، كما يقول الباحث مارك لازار على تقاطع ما بين التذمر من الديمقراطية القائمة، والبحث عن ديمقراطية بديلة.