صالح القلاب

 عندما تشهد سوريا إسقاط أربع طائرات؛ إحداها «سوخوي 5» روسية، والثانية «F16» أميركية، وطائرتين تركيتين أميركيتي الصنع... إضافة إلى خامسة إيرانية من دون طيار، وخلال فترة قصيرة، فإن هذا يعني أن الصراع في هذا البلد بدأ يأخذ الطابع الدولي، وأن الدول الإقليمية؛ إسرائيل وإيران وتركيا، التي انخرطت في هذا الصراع مبكراً، هي مجرد واجهات وأدوات محلية لمواجهة كونية بين الروس والأميركيين من الواضح أنها ستأخذ منحى تصاعدياً، وأنها ستجذب إلى هذه المنطقة دولاً كبرى كالصين وفرنسا وبريطانيا وبعض دول الاتحاد الأوروبي.

ولعل ما بات معروفاً ومؤكداً أن مصادر الطاقة في شواطئ البحر الأبيض المتوسط، القريبة والبعيدة، هي التي حولت سوريا، نتيجة حماقة من يحكمونها الذين لم يعرفوا كيف يتعاملون مع شعبهم بعد حادثة درعا المعروفة في مارس (آذار) عام 2011، إلى ساحة صراع دولي كما هو عليه الوضع الآن، وهو صراع من المتوقع أن يأخذ بعد كل هذا التصعيد المتعاظم أبعاداً خطيرة، وأن يشمل، بالإضافة إلى إيران وإسرائيل وتركيا، دولاً عربية وبعض الدول المتوسطية الأخرى كقبرص التي فيها قواعد أميركية وبريطانية، واليونان التي لديها مشكلات جديدة قديمة مع جارتها تركيا.
عندما تحولت حادثة درعا آنفة الذكر إلى حروب ومواجهات متنقلة في كل الأراضي السورية، وعندما استقطبت هذه المواجهات مع الوقت تدخلاً إقليمياً عنوانه الرئيسي إيران وتركيا، وتدخلاً دولياً عنوانه في البدايات روسيا الاتحادية التي التحقت بها الولايات المتحدة، وشاركت فيه كلٌّ من بريطانيا وفرنسا وإنْ بطرق وأساليب محدودة وغير مباشرة، فإن المفترض أن يدرك المعنيون بهذا الصراع، وفي مقدمتهم العرب بصورة عامة، أن الأمور قد تجاوزتهم كثيراً، وأنه أمر طبيعي أن تفشل كل وساطاتهم وتذهب أدراج الرياح، وأن هذه العقدة التي كانت هناك إمكانية لحلها بالأصابع، قد أصبحت عصية على أي حلٍّ إقليمي حتى بالأسنان والأظافر، وحتى مع الاستنجاد بالوجدان العربي وبالأخوة العربية.


والمشكلة أن هذا النظام «الأخرق»، الذي على رأسه بشار الأسد، لم يتردد في أن يستعين بالخارج؛ ليس بالإيرانيين فقط؛ بل بالروس أيضاً، مما استقطب تدخلاً أميركياً تحت عنوان «داعش» تحول مع الوقت بعد انتقال السلطة من الديمقراطيين إلى الجمهوريين إلى سياسة «استراتيجية» دافعها اعتبار الشرق الأوسط مجالاً حيوياً أميركياً منذ حرب السويس في عام 1956 وحتى الآن، واعتبار البحر الأبيض المتوسط، بما فيه من مصادر طاقة، بحيرة أميركية غير مسموح للروس بالسباحة الحرة فيها، حتى وإن أصبحت سوريا كلها قاعدة عسكرية لهم وليس قاعدتا «حميميم» و«طرطوس» فقط.
والغريب هنا أن الرئيس التركي رجب طيب إردوغان الذي دفعه الخوف من حزب العمال الكردستاني - التركي؛ الـ«p.k.k» إلى الارتماء الكيفي في أحضان الروس وإلى التحالف مع إيران، التي هي الأخطر عليه وعلى بلده من أي دولة أخرى، لم يدرك أن سوريا أصبحت ساحة مفتوحة لصراع دولي، وأن عليه؛ حتى تكون لبلده في مصادر الطاقة «المتوسطية» حصة إنْ ليست مجزية فمعقولة، ألا يضع كل بيضه في السلة الروسية، وألا يسلّم رقبة تركيا للإيرانيين، وأن يدرك أن الأميركيين في عهد الإدارة الحالية التي تضم معظم «صقور» أميركا عائدة إلى الشرق الأوسط بكل قوة.
إن هذه هي الحقيقة، وإن هذا هو واقع الحال، ولذلك فقد تحولت أزمة سوريا من أزمة إقليمية إلى أزمة دولية باتت تستقطب؛ ليست حرباً باردة جديدة فقط؛ وإنما حرباً ساخنة أيضاً عنوانها، بالإضافة إلى مصادر الطاقة في «المتوسط»، العودة إلى الشرق الأوسط بكل قوة ووضع حدٍّ فعلي للتمدد الإيراني في هذه المنطقة والحفاظ على أمن إسرائيل التي لا يهدد أمنها «فعلياً» أحد، والتي هي من يهدد أمن إنْ ليس كل؛ فمعظم الدول العربية القريبة والمجاورة وأيضاً البعيدة. وعليه؛ فإن كل وساطات حلّ الأزمة السورية عربياً قد فشلت، لأن هذه الأزمة سرعان ما تحولت أولاً إلى أزمة إقليمية، وثانياً إلى أزمة دولية، فتدخل إيران العسكري والميليشياوي - المذهبي في سوريا الذي اتخذ طابع الاحتلال المباشر قد أحبط كل محاولات حل هذه الأزمة في الإطار القومي - العربي، وهذا ينطبق على التدخل التركي الذي اتخذ مع الوقت طابعاً احتلالياً مثله مثل التدخل الإيراني، وهكذا وبعد دخول الروس في سبتمبر (أيلول) عام 2015 على خط هذه المشكلة وأصبحت الحرب التي يشنها نظام بشار الأسد ومعه الإيرانيون حربهم، وحيث أصبحت لهم قواعد عسكرية على شواطئ «المتوسط»، تحولت من مشكلة إقليمية إلى مشكلة دولية، وتحول الصراع في هذا البلد العربي من صراع إقليمي إلى صراع دولي، مما جعل مشروعات الحلول السابقة كلها من دون أي أفق؛ لا بل ملغاة، وجعل ما حصل صبيحة السبت الماضي بين الإسرائيليين والإيرانيين بداية مرحلة جديدة قد تأخذ هذه المنطقة كلها إلى صدام دولي على غرار ما حصل بين أميركا والاتحاد السوفياتي بعد حرب السويس (العدوان الثلاثي على مصر) في عام 1956. ولذلك، وبناء على هذا كله؛ فإن ما غدا واضحاً أن الأزمة السورية لم تعد أزمة داخلية بين النظام والمعارضة، وأيضاً لم تعد أزمة إقليمية بين الإيرانيين والإسرائيليين ولا بين تركيا والأكراد ممثلين أولاً بحزب العمال الكردستاني - التركي (p.k.k) وثانياً بما يسمى «سوريا الديمقراطية»... لقد أصبحت هذه الأزمة بعد هذا الصدام الأخير أزمة دولية بين الأميركيين والروس، وحيث سينضم الإسرائيليون إلى أميركا، وسينضم الإيرانيون إلى روسيا، فإن هذه المنطقة كلها ستدفع الثمن غالياً، وستدفع ثمنه سوريا تمزقاً قد يحولها من دولة واحدة ذات سيادة إلى عدد من الدويلات المذهبية والعرقية المتناحرة.


وهنا تبدو الإشارة ضرورية إلى أن إسرائيل كانت قد تبنت، من دون إعلان، خطة لتمزيق هذه المنطقة العربية، عرقياً وطائفياً، وتحويلها إلى دويلات متناحرة بالإمكان أن يتشكل منها؛ إنْ ليس كلها فمن بعضها، «كومنولث» طائفي وعرقي يكون لها، أي للدولة الإسرائيلية، فيه مكانة بريطانيا العظمى في الكومنولث البريطاني الذي كان لعب دوراً سياسياً مهماً في القرن الماضي، لكن دوره أصبح شكلياً وكذلك وجوده.
«الحرب أولها كلام»، لكن في سوريا بدأت الحرب بالمدافع والقنابل والصواريخ وبالأسلحة الكيماوية، وكل هذا بينما الغرب بقي متفرجاً وبقيت الإدارة الأميركية متقاعسة، وذلك في حين أن الروس اتبعوا ومنذ البدايات سياسة اقتحامية أبقت على نظام الأسد حتى الآن، وفتحت الأبواب السورية أمام كل هذا التمدد العسكري الإيراني، وأمام غزو طائفي ومذهبي غير مسبوق منذ الحقبة الصفوية المظلمة وحتى الآن. والمشكلة هنا أن مجلس الأمن الدولي بقي عاجزاً ومشلولاً، وأن الدول الغربية كلها قد بدت كأنها متواطئة مع روسيا الاتحادية وأيضاً مع إيران الخمينية والخامنئية.
الآن، كما يبدو، هناك صحوة أميركية وهناك تصدٍّ متصاعد للروس والإيرانيين، وهناك اهتمام مستجد بالشرق الأوسط وبمصادر الطاقة في البحر الأبيض المتوسط وشواطئه. وهكذا؛ فإن الحرب هذه المرة ليس أولها كلام فقط، وإنما إسقاط طائرات مقاتلة روسية وإسرائيلية وتركية وتحشيد متبادل في هذه المنطقة وفي اتجاهها، وهذا يدل، وبكل وضوح، على أن القادم سيكون أعظم... والله يستر!!