محمد علي فرحات

 كلام رجب طيب أردوغان متناقض حيناً وغامض في أغلب الأحيان، وهو يعبر عن خلط بين مصالح أنقرة في سورية ومشكلاتها الجغرافية في شمال شرق البحر المتوسط كله، لذلك تشكل إشاراته الخيط الرابط ما بين عفرين السورية وقبرص المقسمة وجزر يونانية في بحر إيجه يمكن من بعضها سماع صياح الديكة في البرّ التركي.

وكلام المرشد الإيراني علي خامنئي يُختصر في الشعار الفلسطيني، وهو امتداد لخطاب الخميني الذي جعل من فلسطين جسراً للعبور إلى المشرق العربي ومنه إلى مسلمي العالم. إنه يركز على الجسر ويهمل معاناة الإيرانيين واعتراض العرب على محاولات طهران القبض على قرارهم.

وكلام اليميني الإسرائيلي بنيامين نتانياهو يخاطب المجتمع الدولي بلغة رئيس وزراء دولة تدافع عن ديموقراطيتها في منطقة يسودها الاستبداد، لذلك فهي في حال دفاع مشروع حتى مع امتداد احتلالها إلى كل حقل وبيت في الضفة الغربية، ومع تكاثر مستوطناتها على أرض الغير حيث ينظر أصحابها إلى فعل السرقة العلني ويؤخذ عليهم أنهم يتظاهرون اعتراضاً.

الثلاثي الإقليمي، تركيا وإيران وإسرائيل، يبدو مكرساً من الثنائي الدولي، موسكو– واشنطن، وهو مفوّض عملياً بالحروب الأهلية وشبه الأهلية التي تحطم العمران والسكان في العراق وسورية. لكن التفويض لا يعني حرباً بين الثلاثي الإقليمي إنما بالواسطة، فلكل دولة من الثلاثي قنوات اتصال مباشرة أو غير مباشرة مع قوى محلية دينية وطائفية وقبائلية وجهوية وأتنية وإيديولوجية، تخوض حروباً عمياء ولا ترتوي أحقادها من دماء الابرياء ومعالم الحضارة. ثمة وعي لدى الثلاثي الإقليمي أن وصول شرارة الحرب إليه وتجاوزها الوكلاء المحليين يعنيان أن الثلاثي سيفقد إرادته المستقلة ليصبح هو أيضاً أداة عمياء للثنائي الدولي، فيصير الرئيس التركي والمرشد الإيراني واليميني الإسرائيلي مجرد تابعين للثنائية الدولية، ولن يختار أي منهم سيده بقدر ما أن السيّد يختاره في لعبة القطبين ومصالحهما.

سورية الآن ساحة حرب متجددة بين إيران وإسرائيل بآليات لم نعهدها من قبل، ولكن سيحتفظ كل من البلدين بنفوذه المقرر دولياً، حتى إذا تجاوزه تلقى ضربة من منافسه مسموحاً بها لتعيده إلى الصواب، أي إلى دوره في اللعبة، ولكن، إذا أدى تراجع نتانياهو عن «الثأر» لإسقاط الـF16 الإسرائيلية إلى استقالته بدعوى اتهامه بالفساد، فسيؤدي ذلك إلى خلل في المحاور الإقليمية يستتبع وصول ليبرالي أو يساري إلى حكم إسرائيل. ومثل خامنئي ونتانياهو يخضع الرئيس التركي لرقابة دولية، لذلك نلمح هذا التناقض في خطابه السياسي وهذا التعثر في العمليات العسكرية، كأن أردوغان يخاف من فيتنام سورية يغرق فيها الجيش الأكثر عدداً في حلف الناتو.

لا يبدو الثلاثي الإقليمي مرتاحاً إلى رعايته حروب الوكلاء الهمجية، خصوصاً في سورية حيث العدو متحرك وليس ثابتاً، مع قدر كبير من الغموض في صورة «داعش» و «القاعدة»، فثمة فرق في حضور هذا التنظيم الإرهابي أو ذاك عندنا أو عند الطرف الذي نصارعه. هكذا يبدو الإرهاب مثل صديق في مكان وعدواً مؤكداً في مكان آخر، ثم أن إسقاط سورية وتدميرها، وهذا ما يجرى على الأرض، يبدوان بلا هدف واضح، فضلاً عن كونهما انتحاراً للوكلاء الذين يبدون مثل قط يلحس المبرد ويلتذ بطعم دمه.

ثنائية روسيا- أميركا هي الأقوى، على رغم حروب الكلام بين وزارتي خارجية البلدين. أما الثلاثي الإقليمي فتبدو فيه إسرائيل أكثر حظاً من إيران وتركيا. ويبقى أن حطام سورية سوف يؤدي إلى شكل سياسي جديد لم يكتمل قوامه بعد. لكن دمشق المستقبل ستكون مختلفة وستنشغل في ضبط علاقاتها مع مكوّنات الدولة الجديدة، بذلك لا تبقى لها قدرة ولا مجال للتدخل في لبنان الذي احترفته حوالى 40 عاماً. وهنا مطلوب من اللبنانيين الدخول إلى رحاب الحرية التي تحتاج طاقماً سياسياً لم يأنس إلى تلقي الأوامر والرغبات والخضوع.