وليد شقير

لا سبيل أمام لبنان سوى ممارسة سياسة كسب الوقت وتمريره كي تمر العواصف المتوالدة في محيطه، والتي تلامس حدوده في كل مرة وتكاد تجره إلى عين العاصفة نتيجة الصراع الإقليمي الدولي على النفوذ في المنطقة. فالبلد الذي أضعفته مصادرة قراره منذ سنوات في شأن السياسة الخارجية وأخضعت المعادلات الداخلية فيه لقرارات خارجية، كان من الطبيعي أن تتعمق هشاشة أوضاعه في شكل يزيد من المخاوف على استقراره في كل مرة تفيض الأزمات الإقليمية، لا سيما في سورية، عن حدودها فيستحيل هذا الاستقرار وهماً.

واحد من وسائل كسب الوقت هو ما تقوم به التركيبة السياسية الحاكمة، والتي تبدو هجينة في معظم الأحيان، نظراً إلى جمعها بين متناقضات لا تحصى مقابل تواضع التوافقات بين فرقائها. ولعل هذا جوهر ما يقوم به رئيس الحكومة سعد الحريري في التسويات التي تمكن من صوغها على الصعيدين المحلي والخارجي إلى الآن، تحت عنوان: «لن أسلِّمَ بخروج لبنان عن محيطه العربي، ولا بدخول لبنان في محرقة الحروب العربية»، كما أعلن أول من أمس في الذكرى الـ13 لاغتيال والده الرئيس رفيق الحريري. 

فالحريري يقاوم ولو بأدوات محلية ضعيفة نجاح إيران في استتباع لبنان إلى أجندتها في سورية والمنطقة من طريق «حزب الله» الذي وصفه وزير الخارجية الأميركي ريكس تيلرسون بـ «الشريك في العملية السياسية». وفي الوقت نفسه يسعى إلى تجنب انتقال المواجهات القائمة على امتداد ميادين عربية عدة مع الحزب، إلى الميدان اللبناني. وهي مهمة صعبة تتطلب الكثير من الابتكار والحنكة والصبر كي تصمد. واللعب على عامل الوقت قد يساعد في التخفيف من أضرار الجمع بين نقيضين.

فلبنان تحول أداة ضغط متبادلة بين المحاور المتصارعة إلى درجة الفوضى في انفلات الأعمال العسكرية في سورية البلد الأقرب الذي أخذ يختزل الصراعات الخارجية فبات الحلفاء خصوماً، كما في حالة الولايات المتحدة وتركيا، والخصوم حلفاء كما في حالة إيران وتركيا. وبات المختلفون في الأهداف الاستراتيجية مثل روسيا وإيران، حلفاء لأن المشترك بينهما هو العداء لفرقاء آخرين. وهي الحالة نفسها التي تجمع روسيا وإسرائيل أيضاً.

في هذه الفوضى تستخدم طهران لبنان وسيلة لتهديد أمن إسرائيل في حال اندفعت مع الإدارة الأميركية نحو تنفيذ سياسة الأخيرة إخراج إيران من سورية، كما حصل نهاية الأسبوع الماضي حين أسقطت الدفاعات السورية بتشجيع إيراني، طائرة «أف 16» إسرائيلية الأمر الذي اعتبر «حزب الله» أنه «يعني في شكل قاطع سقوط المعادلات القديمة». 

وأتبع الحرس الثوري ذلك بتنظيم زيارة الأمين العام لـ «حركة النجباء» العراقية والمقاتلة في سورية إلى بيروت ليعلن وقوفه إلى جانب الحزب في المواجهة مع إسرائيل، بعد أن كان قيس الخزعلي قائد «عصائب أهل الحق» العراقية أيضاً زار الجنوب قبل شهر. وتارة أخرى تستخدم إسرائيل لبنان وسيلة ضغط على النفوذ الإيراني في سورية، عبر إعلانها أن الجبهة الشمالية في الحرب المقبلة لن تقتصر على سورية بل تشمل جنوب لبنان وتهدد بتدمير قواعد الصواريخ المتطورة التي حصل عليها الحزب من طريق سورية، وتفتعل الخلاف على الحدود البحرية والمربعات التي تحتوي غازاً ونفطاً. وهي تبغي بذلك استدراج الموقف الدولي إلى مشاركتها الضغط لتحقيق انكفاء إيران عن حدودها في سورية ولبنان، وإلى تغطية حربها المحتملة في هذا السياق. وسط هذه التعقيدات لا يملك لبنان الكثير من الوسائل سوى كسب الوقت بتأخير أي مواجهة لعل المعادلات الإقليمية تغنيه عن تداعيات توحيد جبهته مع الجبهة السورية. فعلى هذه النقطة تتقاطع مصالح إسرائيل وإيران.

قد يكون الجديد في مسعى الحريري للنأي بالنفس وكسب الوقت، أن «الترويكا» اللبنانية التي تضمه مع رئيسي الجمهورية ميشال عون والبرلمان نبيه بري الإثنين الماضي، لم تستنكر القصف الإسرائيلي لسورية (كذلك كل من عون وبري الحليفين لـ «حزب الله»)، ولم تعلن تضامنها معها في إسقاط الطائرة الإسرائيلية، كما فعل عدد محدود من قوى «محور المقاومة». فالرؤساء الثلاثة اكتفوا بإعلان وحدة الموقف إزاء أي تعديات إسرائيلية على لبنان، ونأوا بأنفسهم عن حرب إيرانية- إسرائيلية ولو كانت بأدوات سورية. و «حزب الله» كان منخرطاً في سورية بحجة مواجهة «داعش» لكنها باتت مواجهة بين إيران وإسرائيل، خارج لبنان.
قد يرمز موقفا عون وبري إلى رسالة لتيلرسون باستعداد «الترويكا» لاستعادة قرار الحرب والسلم، فهل يساعدان على إنجاح سياسة الحريري كسب الوقت والنأي بالنفس بالفعل؟