إدريس لكريني

أصبحت الهجرة في الوقت الراهن، تفرض نفسها بقوة على أجندة السياسات العمومية داخلياً ودولياً، كما أنها باتت تشغل الخبراء والباحثين من حقول معرفية متنوعة، وهذا أمر طبيعي إذا استحضرنا ارتفاع عدد المهاجرين في مناطق مختلفة من العالم، والانعكاسات التي تخلّفها الظاهرة على شتى الواجهات.

أصبح حوض المتوسط فضاء للكوارث الإنسانية الناجمة عن الهجرة السرية، بحسب تقارير المنظمات الدولية ذات الصلة؛ ذلك أن هناك ارتفاعاً قياسياً في حجم الهجرة عبر ضفّتيه، بسبب تباين مستويات التنمية بينهما، وبسبب تزايد النزاعات والحروب والإشكالات السياسية والاجتماعية والاقتصادية في عدد من دول الجنوب.

وتبقى الظاهرة مرشّحة للتطور بصورة كبيرة، أمام تزايد العوامل المغذية لها في عدد من المناطق من جهة أولى، واقتصار المقاربات الداخلية والإقليمية والدولية في أغلبيتها على الجوانب الأمنية والردعية، دون استحضار الجوانب الشمولية للظاهرة من جهة ثانية.

أصبح موضوع الهجرة في أشكالها المختلفة يطرح الكثير من الأسئلة، في علاقتها بالعوامل المغذية والتداعيات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية للظاهرة، فيما بات استحضار جوانبها الإنسانية أمراً ضرورياً لتجاوز النظرة التي ترى في الظاهرة حاضنة للتطرف والعنف، واختزال المشاكل الاجتماعية فيها، إلى نظرة أكثر عمقاً تستحضر أبعادها الحضارية ودوافعها المختلفة، وإسهاماتها في تواصل الشعوب وتقدم الدول والأمم.

وعلى الرغم من التقارير المحذّرة من حجم الخسائر البشرية التي ترافق مغامرات الهجرة في حوض البحر الأبيض المتوسط، فقد ظلت التداعيات الإنسانية للظاهرة مغيبة بصورة ملحوظة على امتداد سنوات عدّة، ضمن أجندة الدول الكبرى، التي سعت إلى بسط الجدران ووضع تشريعات صارمة في هذا الخصوص، دون إيلاء الاهتمام الكافي للمعاناة والإشكالات العميقة التي تخلّفها الظاهرة. 
ورغبة منها في طرح الإشكالات الإنسانية للهجرة في حوض المتوسط على مائدة الحوار العلمي الهادئ، عقدت أخيراً منظمة العمل المغاربي ومجلس الجالية المغربية بالخارج، بشراكة مع مؤسسة هانس سايدل، ندوة علمية حول موضوع: الهجرة في المتوسط.. وحقوق الإنسان، شارك فيها عدد من الباحثين والخبراء من الدول المغاربية، ينتمون لحقول معرفية مختلفة.

أكّدت الأوراق المقدمة أن المتوسط شكّل تاريخياً جسراً للتواصل، قبل أن يتم اعتماد نظام التأشيرة ومد الجدران، ما جعله في الوقت الراهن فضاء مقترناً بالموت والمآسي، وعلى الترابط الحاصل بين الهجرة والتنمية، سواء تعلق الأمر بالبلدان المستقبلة أو المصدرة، وعلى ضرورة ضمان حق المواطنة بالنسبة للاجئين؛ لأن حقوق المواطن أقوى من حقوق الإنسان. فيما نبّه البعض إلى التناقضات التي تميّز السياسات الأوروبية في هذا المجال، بما يعمق إشكالات ومعاناة المهاجرين، وخصوصاً مع تصاعد المدّ اليميني في الأوساط السياسية، وبروز مؤشرات واضحة تظهر فشل الدول الأوروبية في استيعاب وإدماج المهاجرين؛ الأمر الذي يفرض بلورة سياسات تدعم حق العودة.

وتمّ الوقوف أيضاً على دور المجتمع المدني في مواكبة قضايا الهجرة، خاصة على مستوى الاستماع لقضايا ومعاناة المهاجرين واللاجئين، ومحاولة تحسين أوضاعهم، عبر تقديم مرافعات وتوصيات لصانعي القرار بصدد حاجياتهم.

وقد تمخض عن أشغال هذه الندوة التي شهدت نقاشات واسعة، مجموعة من التوصيات، فعلى المستوى الوطني، وبعد تأكيد أن المغرب تحوّل تحت ضغط الهجرة بكل أشكالها، من بلد مصدّر للهجرة إلى مستقبل لها بصورة غير مسبوقة؛ فرضت عليه استحضارها ضمن تشريعاته وسياساته، تم تثمين الجهود المبذولة على مستوى هذه السياسات، مع تأكيد أهمية تطويرها ومواكبتها، كما تمت الدعوة إلى الاشتغال على الذاكرة الحية للمهاجر كسبيل لإعادة الاعتبار لمغاربة العالم ومناطقهم الأصلية، عبر إدخال مادة تاريخ الهجرة في المقررات المدرسية، وبلورة سياسات استراتيجية تعنى بالوضع الاقتصادي والاجتماعي والحقوقي والثقافي للمغاربة بالخارج، والدعوة إلى بلورة استراتيجية لإعادة إدماج المهاجرين العائدين، وإحداث بوابة أو مرصد للعودة.

وعلى المستوى الإقليمي، دعا المشاركون إلى فتح الحدود بين الدول المغاربية وتطوير التعاون بينها؛ لمواجهة الهجرة السرية وإقرار سياسات في إطار من التعاون والتنسيق في هذا الشأن، وإلى إنشاء قنوات قانونية للهجرة النظامية، عبر مؤسسات الوساطة في دول المنشأ للاستقبال.

كما تمت الدعوة إلى استحضار الأبعاد الإنسانية للظاهرة، ضمن مختلف الترتيبات والتدابير المتخذة في ارتباطها بهذا الملف، عبر ترسيخ ثقافة حقوق المهاجر وتحمّل قنوات التنشئة لمسؤوليتها في هذا الصدد، سواء تعلق الأمر بهيئات المجتمع المدني والمؤسسات التعليمية والإعلامية، دون إغفال للصرامة اللازمة في التعامل مع الإشكالات الأمنية التي تطرحها، عبر تأهيل وتدريب فرق مكافحة الجريمة، وتفكيك العصابات المتخصصة في ميدان تهريب البشر.
وتمّ أيضاً تأكيد أهمية تعزيز الحوكمة بين مختلف المتدخلين لضمان تدبير عقلاني يدعم الاستفادة من إيجابيات الهجرة، مع إيلاء أهمية خاصة للنساء والقاصرين المهاجرين، وضمان المواكبة النفسية والصحية والتربوية لهذه الفئة.

أكّدت مجمل الأوراق المقدمة حالة الارتباك التي تطبع التعاطي الأوروبي مع الظاهرة، والتي تضاعف من معاناة المهاجرين وتعقّد مآسيهم أكثر، ونبّهت إلى ضرورة اعتماد سياسات أكثر نجاعة وشمولية، دون إغفال الجوانب الإنسانية للموضوع، عبر نهج مقاربات مستدامة في هذا الخصوص؛ بزيادة حجم المساعدات المقدمة من دول الشمال إلى دول الجنوب، ضمن إطار شراكة استراتيجية، وتبنّي سياسة هجرة موحدة إنسانية وتنموية من طرف دول الاتحاد، مع تفعيل مفهوم الضيافة في التعامل مع اللاجئ والمهاجر.