عادل درويش

 المنح والاستثمارات والقروض، كلمات اتضحت الحاجة لتغيير المفاهيم حولها أثناء استضافة الكويت، التي نظمت ودعمت وموّلت، مؤتمرين لدعم العراق.

مجهود هرقلي بذله المنظمون الكويتيون بخبرة طويلة في تنظيم المؤتمرات وإدارة العمليات اللوجيستيكية المعقدة لوفود عشرات الدول والمنظمات العالمية وعشرات الصحافيين متعددي اللغات والجنسيات.
بجانب استضافة الكويت مؤتمر تحالف البلدان التي تحارب التنظيم الإرهابي «داعش»، فقد استضافت أيضاً مؤتمر الاستثمار لإعادة إعمار العراق.
الأفكار الاستراتيجية والاقتصادية والمالية التي قدمها الكويتيون والمشاركون الآخرون، تستحق أن يدرسها العراقيون بدقة، ويتولوا تطبيقها استفادة من الخبرة التجارية الاقتصادية الكويتية على وجه الخصوص، والخليجية عامة، في التحول من نموذج الاقتصاد السوفياتي الاشتراكي الخاسر إلى الاستثمار واقتصاديات حرية السوق.
أبدى الكويتيون مرونة واقعية بجانبين إنساني وسياسي.
الأول في روح المساعدة والتعاون مع الشعب العراقي بكافه عناصر مكوناته العرقية، وعدم محاسبته كله على العدوان على الكويت (1990 - 1991)، فالمسؤولية التاريخية يتحملها الديكتاتور الراحل صدام حسين التكريتي (1937 - 2006)، بعدوانية نظامه البعثي ذي الطبيعة المركزية الأوتوقراطية المركزية كحركة تصطبغ بالتمييز العنصري بتذويب العرقيات الأخرى في قومية عربية بميول تأثرت بفاشية موسيليني. ثم أدى احتواؤها للاشتراكية القومية في مطلع الستينات إلى ممارسات نازية الطابع اجتماعياً وخراب اقتصادي بتعطيل القدرات الفردية العراقية، بإعادة صياغة الاقتصاد على نظام بيروقراطي سوفياتي.
الثاني هو واقعية التفريق بين المبادئ والقيم المشتركة، وبين المصالح والأهداف المشتركة.
هناك قيم عامة مشتركة في المجالات الإنسانية والعدالة؛ وقيم محددة من خصوصية بلد أو أكثر في تجمع دولي كالديمقراطية وحرية الفرد في التعبير والاختيار وحرية السوق، ومدى اعتماد النظام المؤسساتي للدولة على، أو ابتعاده عن مفهوم العلمانية (الدولة المدنية عند البعض) أو اقترابها من أو ابتعادها عن المرجعية الثيولوجية.
وعدم مشاركة الجارتين كلَّ هذه المفاهيم والقيم لا ينفي تشاركهما مصالحَ وأهدافاً لا مفر من التعاون لتحقيقها. فالأمن واستقرار المجتمعين وازدهارهما اقتصادياً، مصالح وأهداف مشتركة لمواجهة الأخطار الإقليمية، والتعامل التجاري والاقتصادي مع العالم الخارجي.
المشاركون في المؤتمر، بجانب الأمم المتحدة، وصندوق النقد الدولي، والجامعة العربية، والاتحاد الأوروبي، ومجلس التعاون الخليجي، والمؤسسات الاستثمارية، وعدوا بـ30 مليار دولار من 88 ملياراً تطلبها بغداد للتعمير وإعادة البناء.
بريطانيا قدمت مليار دولار في شكل ائتمان لمؤسسات تبني المشاريع العراقية.
الكويت قدمت مليار دولار في شكل استثمار، وملياراً آخر كقرض.
السعودية قدمت مليار دولار لإعادة الإعمار عن طريق صندوق التنمية و500 مليون دولار لدعم الصادرات.
الملاحظ أن إيران لم تقدم أي دعم مادي (وعدت بالمساهمة «في الأعمال الأمنية، وتشجيع القطاع الخاص على الاستثمار»).
وهنا نتوقف عند «المنحة» و«قرض الاستثمار».
المثل الصيني يقول: «اعطِ الفقير سمكة تطعمه يوماً؛ علمه صيد السمك تطعمه مدى الحياة».
السمكة «منحة» والتدريب على الصيد «استثمار».
أقرض الفقير نفسه ما يكفي لشراء قارب صيد بمعدات كشباك صيد، وثلاجات حفظ، ومعدات التعبئة، تمكنه من تأسيس صناعة تحول البقعة التي يسكنها إلى مركز صناعة توظف الصيادين ومصدري السمك المعلب، وينمو اقتصاد المنطقة. وبالطبع يتلقى مانح القرض نسبة فائدة سنوية من أرباح صناعة صيد السمك.
العراق ليس بحاجة إلى «منحة تطعمه يوماً». فهو بلد غني بالموارد الطبيعية. الخامس عالمياً في احتياطي البترول بـ142503 آلاف مليون برميل (الكويت 101500 والإمارات 97800) حسب أرقام «أوبك». كما أنه أغنى بلاد المنطقة في الموارد المائية، والمنتجات الزراعية والمعادن.
العراق غني بالموارد البشرية، وأبناؤه وبناته من أفضل الخبراء في كل المجالات في الغرب والشرق.
العراق يحتاج 22 مليار دولار سيولة نقدية فورية في قول حكومته.
المستثمر الأجنبي، ليس مؤسسة خيرية، أو يلقي بأمواله مقابل أطماع سياسية. لذلك هناك شروط يجب أن يعيها العراقيون، ويوفروها لجذب المستثمر غير العراقي.
أولاً، ضرورة توفير الأمن لطمأنة المستثمر على أن معداته ومبانيه والعاملين عنده لن يتعرضوا للأخطار التي تمثلها «داعش» أو الصراعات الطائفية. «داعش» هُزمت جغرافياً، بدون القضاء الكامل على أفكارها وتجفيف حاضنتها البشرية وتدمير عناصرها (الأميركيون في حصار الموصل والرمادي أو في أكثر من موقع في سوريا، ضغطوا على القوات المهاجمة للسماح لمقاتلي «داعش» بالهرب بدلاً من القضاء عليهم).
الأمر الثاني، قلق المستثمر من انتشار الفساد لأنه يضيف إلى تكلفة الميزانية، كما يؤدي إلى تعطيل سير العمل وعرقلة الجدول الزمني الذي يتوقف حتى يحصل «الكل على نصيبه».
الثالث، هو الاطمئنان بعيد المدى. فالمستثمرون والبنوك لهم تجارب مؤلمة مع بلدان الانقلابات العسكرية التي حولت اقتصادها ونظامها السياسي إلى شمولية ما يسمى بـ«الاشتراكية»، باستيلاء أنظمة هذه البلدان على الصناعات والاستثمارات والودائع فيما عرف بالتأميم. وهذا بدوره خلق بيروقراطية أصبح شاغلها استمرارية الجهاز البيروقراطي نفسه على حساب الشعب ومصالحه.
التعامل مع هذه التحديات يحتاج إلى تغيير الذهنية العراقية، التي سيطرت على المؤسسة السياسية والاقتصادية منذ الانقلاب الأول في 1958 الذي قضي على النظام البرلماني وذهنية حرية السوق، ليس فقط لقبول نموذج القرض الاستثماري الذي طرحناه بالمثل الصيني عن السمكة والصيد، بل أيضاً بإصلاح الجهاز البيروقراطي حتى لا تضيع الأموال في إدارته، أي يكون الإقراض على المستوى المحلي في شكل بنوك وجمعيات إقراض واستثمار صغيرة. أي قروض الاستثمار الأفقية، وليس الرأسية من أعلى إلى أسفل الهرم البيروقراطي.
وضع الإصلاحات التي تطمئن المستثمر موضع التطبيق، يحتاج إلى تغيير طريقة التفكير وإصلاحات تبدأ بتطوير التركيبة السياسية بتغيير النظام الانتخابي نفسه من نظام القوائم (التمثيل النسبي) إلى نظام الدوائر (انتخاب مرشح واحد لمقعد برلماني في دائرة جغرافية محددة). فالأول يعمق الطائفية والعرقية، وهو المنفذ الذي تسللت منه «داعش»، بينما نظام الدوائر سيكون أكثر تمثيلاً وخطوة نحو تقليل الفساد وتقليم مخالب وحش البيروقراطية. فالناخب سيختار المرشح الذي يقدم له الخدمات والإصلاحات المحلية، ويظل يتابع أداءه بصرف النظر عن خلفيته الطائفية أو العرقية.
وتغيير الذهنية يجب ألا يقتصر على الحكومة فقط، بل يمتد إلى كافة نواحي المجتمع العراقي، وهو أمر ليس باليسير بعد أكثر من نصف قرن من حكم مركزي شمولي تعمد تطويع العقل الجماعي للمجتمع، بمساعدة نظام تعليم خصص للغرض نفسه، بالاعتماد على الدولة وإلغاء دور الفرد كمستثمر قادر على النمو ليظل أسير مساحة لا تسمح بالحركة الطبيعية داخل جهاز الدولة البيروقراطي.