محمد المزيني

 في «ثلوثية» الموسى الثقافية، قدم الدكتور عبدالعزيز الشعيل ورقة بعنوان: «المهرجان الوطني للتراث والثقافة ورؤية 2030»، استعرض خلالها مراحل المهرجان، التي مر بها منذ التأسيس حتى اليوم، بدءاً من مهرجان لسباق الهجن إلى مهرجان للترات والثقافة، إذ بنى الدكتور ورقته على حصيلة تجربته الطويلة مع المهرجان إبان تسلمه إدارة مهرجان الجنادرية.

لم تكن هذه الورقة الاستعراضية أهم من مداخلات الحضور وآرائهم تلك التي اتسمت بالصدقية العالية في تقويم تجربة «المهرجان»، بعد سنوات طويلة مملوءة بالمتغيرات والأحداث والتطورات في الشكل والمضمون، السؤال الذي طرحه أحد المداخلين عن عدد زيارات الحضور للمهرجان، لم تكن الإجابات إيجابية، إذ توقف كثير منهم عن زيارة المهرجان منذ سنوات طويلة، بعض الآراء يشي بأن المهرجان لم يعد يمثل رؤى المثقفين والأدباء والفنانين وطموحاتهم من خلاله، بعض الذين تحدثوا بشفافية عالية كانوا ممن أسهموا في وقت من الأوقات بإحيائه؛ فما الذي حدث بعد ذلك؟ هل بسبب تدني مستوى المهرجان؟ وهل هو دون المستوى المأمول حقيقة؟ أم أن ثمة تجنياً مبالغاً فيه؟

بعيداً عن إقحام رؤية 2030 في المهرجان، كما تعودنا عند تناولنا أي إنجاز وطني، من دون قراءة فاحصة لمدى اقترابه من الرؤية وعدمه، فهل نبعت حال عدم الرضا عن المهرجان من أنه يكرر نفسه في كل سنة من دون أن يقدم جديداً مختلفاً، لا جديداً مكرراً مثل تلك الأشكال الجمالية التي كلفت الدولة الملايين؟ أم أن المهرجان لم يعد يقدم شيئاً تحولياً حقيقياً على مستوى الثقافة والفنون؟ أم لأنه اختصر تراثنا في الرقصات الشعبية والحرف والأكلات الشعبية؟

تقريباً كل هذا وارد ومطروح. سأل أحدهم سؤالاً وجيهاً عن سبب تأخر تسجيل المهرجان في منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (يونيسكو)، مثله مثل غيره من المهرجانات، أسئلة كثيرة طرحت بكثير من الحب للتراث الوطني والثقافة، أملاً بأن يتماس عملاً لا قولاً مع برنامج التحول الوطني 2030، وحتى ذلك اليوم ستظل الرؤى والتصورات المحملة بصيغ نقدية بناءة تطاول المهرجان، منها أن المهرجان على اتساع مساحته لم توضع مخططاته الهندسية للمدن والمناطق على أسس جغرافية معقولة، فما بين المداخل والممرات سيترك الزائر للمصادفات، ولكن عليه أن يستفتح هذه الزيارة بصالات عروض السيارات وبسطات الباعة وأكشاك المطاعم والمقاهي، وأجنحة المؤسسات والوزارات المبالغ في بنائها والصرف عليها، وقبل أن يصل إلى التراث يكون التعب نال نصيباً وافراً من قواه، ربما لا يعي أنه قريب من أحد الأجنحة حتى يتناهى إلى سمعه قرع الطبول والأهازيج الشعبية، ليكتشف أنه على مقربة جناح منطقة من المناطق، ومع أن المنظمين حاولوا محاكاة البناء القديم فاتهم أن المساحات المخصصة للمهرجان تسمح بتوسيع الأجنحة بما يليق بحجم المناطق، فلا نتصور مثلاً أن مساحة جناح وزارة المالية أكبر من المساحة المخصصة لبعض المدن، ما أفقدها جزءاً مهما من عناصرها التراثية، فلا يكفي بناء قالب صغير يشي بمعلم من المعالم، فلا تصل الصورة في شكل طبيعي إلى الجيل المتعطش إلى معرفة آثاره واكتشاف تاريخه الحي، وويل للذي يصطحب أطفاله الصغار، الذين لا يقوون على المشي مسافات طويلة، ستكون الزيارة حتماً محبطة، وقد لا تتكرر مرات أخر. لاحظوا أنني لم أتحدث عن الفعاليات الثقافية بعدما هجرها كثير من المثقفين، لاستشعارهم خيبة كبيرة بعدما تخلى عن رسالته الثقافية الكبرى، التي بدأها في الثمانينات، وكانت بمثابة تحول حقيق أحدث حراكاً ثقافياً غيّر في أنماط التفكير التقليدي، من خلال أطروحات محورية منفتحة جداً على الوعي، دُعي إليها مفكرون عرب كبار، حتى علا طوفان المد الصحوي وأسقط منبره المضيء إلى غير رجعة.

لذلك، قصرت حديثي على التراث، ومن بينها الفنون، وأقول: إن أمام مهرجان الجنادرية للتراث والثقافة مستقبلاً مشروعاً ضخماً جداً، يبدأ - كما أشار المنتدون في صالون الموسى - بتحويل ملف المهرجان إلى هيئات السياحة والتراث الوطني والترفيه والثقافة، لإعادة بنائه وفق تصورات تراثية حقيقية، بحيث يستطيع الزائر الإلمام بها وبمحتواها في وقت محسوب، ويشارك فيها أيضاً، كأن توضع بوابات من الجهات الأربع، تمثل مناطق المملكة، تقود مرحلياً إلى المناطق عبر عربات ناقلة تستخدم فيها أساليب الإبهار الصوتي والضوئي، من خلال مجسمات عالية التقنية، وتقدم من خلالها الشخصيات التراثية الحقيقية الجاذبة للصغار قبل الكبار، وتخرج الأجنحة، التي لا تمت إلى التراث بصلة إلى خارج أرض المهرجان؛ كصالات عروض السيارات، وأجنحة المؤسسات الحكومية والوزارات، التي تستعرض إنجازاتها، ومنها المطاعم و«الكافيهات»، وفي زمن التحول الذي نعيش تجربته اليوم يكون من الأهمية بمكان طرحه على شركات استثمارية عالمية، تقوم بتسويقه واستثماره، يسمح لها بالعرض طول أيام السنة بتذاكر ميسرة، بهذا نحقق معادلتي الجودة والعالمية، التي تتوافر فيهما أهم الخصائص السياحية الراقية.