خلف أحمد الحبتور

عدت مؤخراً إلى الوطن من إحدى زياراتي المنتظمة إلى الدولة الأقوى على وجه الأرض، الولايات المتحدة الأميركية التي تضم واحداً من أعظم الشعوب في العالم. أحظى دائماً بالترحيب وبالحفاوة الشديدة أينما حللت. في هذه المناسبة، أجريت مباحثات مع أشخاص عاديين، وشخصيات سياسية، وكذلك مع شخصيات نافذة رفيعة المستوى، إنما خاب ظنّي عندما لمست أن قلّة منهم تدرك حقيقة مواقفنا على الساحة العالمية. واستنتجت أن الذنب ليس ذنبهم، بل نحن مَن نتحمّل المسؤولية في المآل المؤسف الذي وصلت إليه الأمور. لقد غفلنا عن استعمال الوسائل الحديثة من أجل نقل رسائلنا كما يجب.

الحقيقة هي أن الرأي العام الأميركي يتأثّر إلى حد كبير بوسائل الإعلام التي باتت ترتكز، في هذا العصر، على الآراء المنحازة أكثر منه على التقارير المحايدة المستندة إلى وقائع راسخة وموثوقة. تضيف الشبكات التلفزيونية والصحف الكبرى لمستها الخاصة إلى الأخبار بحسب القناعات السياسية لمالكيها والمستثمرين فيها وكبار المعلنين والمحررين.

لنتوقف مثلاً عند التفاوت الكبير في الطريقة التي تعتمدها كل من قناتَي «سي. إن. إن» و«فوكس نيوز» في التعامل مع الأنباء العاجلة. ففي حين دعا المذيعون في قناة «سي. إن. إن» إلى ضبط السلاح إبان وقوع حادثة إطلاق نار مأساوية جديدة في إحدى المدارس، تحدّثت قناة «فوكس نيوز»، التي تربطها علاقة وثيقة بـ«الجمعية الوطنية للبنادق»، عن أن مرتكب الجريمة في فلوريدا الذي تسبب بقتل 17 ضحية نيكولاس كزور هو مصاب بمرض عقلي.

فضلاً عن ذلك، وسائل الإعلام التقليدية هي التي روّجت لاجتياح العراق عام 2003 من خلال حملة تلفيق دفعت بالشعب الأميركي المضلل إلى الاعتقاد بأن صدام حسين الرئيس العراقي آنذاك يمتلك مستودعات مليئة بالأسلحة النووية والبيولوجية والكيميائية. مثلما يتنافس اليسار واليمين في الولايات المتحدة عبر الأثير وفي الصحافة المكتوبة من أجل التأثير في العقول، تتمتّع بعض البلدان، ومن بينها بلدان تُعتبَر الأصغر والأضعف، بحنكة إعلامية كافية تُمكّنها من التلاعب بآراء الأميركيين على مختلف المستويات. هذه البلدان تُغرِق البرامج الحوارية الواسعة الانتشار بمبعوثيهم السياسيين الذين يتكلّمون باسمهم، ويضخّون أموالاً طائلة في الحملات الإعلامية، والترويج الذاتي – عن طريق الإعلانات أو حتى الرعاية المادّية – فضلاً عن الاستثمار في العلاقات العامة وشركات اللوبي.

والأمر نفسه ينطبق على تنظيمات على غرار «الإخوان المسلمين» الذين ظهر قادتهم في الصور يزورون البيت الأبيض، ووزارة الخارجية الأميركية، ومجلس «العموم» البريطاني، في إطار الجهود التي يبذلونها لإقناع المسؤولين الكبار بأن جماعتهم هي تنظيمٌ حميد، في حين أننا نعي تماماً في هذه المنطقة من العالم أن العكس هو الصحيح.

تتقن إسرائيل وداعموها الأميركيون، منذ أكثر من نصف قرن، فن التلاعب بالعقول عن طريق أفلام هوليوود التي تُظهر المهاجرين اليهود إلى فلسطين في صورة الروّاد الشجعان الذين يشمّرون عن سواعدهم في «أرضٍ من دون شعب لشعبٍ من دون أرض»، وهي عبارة غالباً ما يتكرر الاستشهاد بها في الكتابات الصهيونية.

في المقابل – وحتى يومنا هذا – لا تزال تُلصَق بالعرب، على الدوام تقريباً، صورةٌ سلبية. لقد اشترى المروِّجون الإسرائيليون استديوهات لتصوير الأفلام، وفي مرحلة لاحقة، صحفاً وقنوات تلفزيونية كبرى. لا عجب في أن غالبية الأميركيين يدعمون الإسرائيليين أكثر من دعمهم للفلسطينيين، بعد عقود طويلة من التلقين العقائدي الذي حصلوا عليه بانتظام.

لقد حقّق الترويج الذاتي فوائد جمّة للدولة اليهودية. فعلى الرغم من أنها الكيان الوحيد المسلَّح نووياً في الشرق الأوسط الذي يحتلّ الأراضي الفلسطينية بما يشكّل انتهاكاً لشرعة الأمم المتحدة واتفاقيات جنيف، إلا أنها تمكّنت من إقناع شريحة واسعة من الرأي العام الأميركي بأنها ضحية جيرانها العرب المعادين لها، فاستطاعت الاستحواذ على مساعدات بمليارات الدولارات من الصناديق الأميركية سنوياً.

ألم يحن الوقت كي يتعامل قادتنا في مجلس التعاون الخليجي بالجدّية اللازمة مع نفوذ وسائل الإعلام؟

سواءً كنّا موافقين أم لا على الجوانب المختلفة في السياسة الخارجية الأميركية، الحقيقة هي أننا بحاجة إلى أن تكون الولايات المتحدة في صفّنا دبلوماسياً واقتصادياً وعسكرياً في حال تعرّضنا للعدوان.

يجب ألا ننسى أن الردّ الحازم من الرئيس السابق جورج بوش الأب على اجتياح صدام حسين للكويت عام 1990، أنقذنا من المحظور. أضِف أيضاً أنه بفضل الضغوط التي مارسها الرئيس الأميركي دوايت أيزنهاور على المملكة المتحدة وفرنسا وإسرائيل خلال أزمة السويس عام 1956، فضلاً عن المقاومة المصرية الشديدة، أُرغِمت القوات البريطانية والفرنسية والإسرائيلية على الانسحاب صاغرةً من الأراضي المصرية.

لسنا في السعودية والإمارات، وطني، وحلفاؤنا الخليجيون، في موقع يخوّلنا التصدّي لهجمات أعدائنا الترويجية الحاقدة. لا نمتلك منصّات فعلية يمكننا استخدامها من أجل التصدّي للأخبار الكاذبة ودحضها بالحقائق والوقائع. لعل السبب هو أننا صدّقنا بسذاجة أن المعنيّين سيُحسنون تمييز الصواب من الخطأ. إنما يبدو أن بعض صنّاع القرار الأميركيين وقعوا أيضاً تحت سحر الناطقين باسم أعدائنا الذين يلقون ترحيباً وتعاطفاً على شاشاتهم التلفزيونية.

كيف يُعقَل أننا لم نعمل على إنشاء قنوات فضائية دولية تبثّ باللغة الإنجليزية في مختلف أصقاع الأرض؟ ثمة عدد كبير من الشبكات الإخبارية الناطقة باللغة العربية، فضلاً عن قنوات ناطقة بالإنجليزية تغطّي الأخبار المحلية وتبثّ برامج ترفيهية – بصرف النظر عن قناة واحدة تعمل ضد مصالحنا الجماعية – إلا أنه ليست هناك محطة واحدة قادرة على استقطاب عدد كبير من المشاهدين الأميركيين. والخطوة الأولى يجب أن تكون إنشاء قناة تلفزيونية قادرة على تحقيق ذلك.

أما الخطوة الثانية، فهي إنتاج أفلام سينمائية ووثائقية ضخمة الهدف منها تسليط الضوء على أفضل الجوانب في ثقافتنا وتراثنا وإنجازاتنا الحديثة ومساعينا الإنسانية والخيرية.

تقتضي الخطوة الثالثة إقامة شبكة واسعة من العلاقات الدبلوماسية، والاستعانة بخدمات استشارية احترافية في مجال العلاقات العامة، وتنظيم حملات دعائية، ونشر افتتاحيات ومقالات للتعبير عن الآراء، ورعاية فعاليات رياضية، والقيام بأعمال خيرية، واستخدام مواقع التواصل الاجتماعي. باختصار، علينا استخدام وسائل الإعلام الغربية كي نُظهر للعالم أجمع كل الأمور والمبادرات الجيدة التي نقوم بها من أجل مكافحة الإرهاب والقضاء على الأيديولوجيات المتطرّفة، فضلاً عن التحدّيات التي نعمل جاهدين لمواجهتها في منطقةٍ يضربها العنف المذهبي، وترزح تحت وطأة الحروب التي تُشَنّ بالوكالة، ويُنهكها الفقر، تحت الظلال الحالكة التي تُلقي بها إيران، الراعية الأكبر للإرهاب، على هذا الجزء من العالم.

أودّ أن أسلّط الضوء على الإمارات العربية المتحدة التي ثبُت أنها ملاذ للاستقرار، ونموذجٌ يُحتذى للبلدان العربية التي تمرّ الآن بأزمات صعبة، في الإمارات، تعيش شعوب من مختلف الأعراق جنباً إلى جنب وتعمل بأمان وطمأنينة. فلنُعلن نجاحاتنا على الملأ وبأعلى صوت. فليرَ الأميركيون مَن نحن حقيقةً وإلى أين نصبو. فلنتكلّم لغة أميركا من خلال وسائل الإعلام وسواها من الوسائط ذات الصلة. الوقت يداهمنا، فالآخرون مصمّمون على تأليب المنظومة ضدنا. لا يكفي أن نكون على صواب في الأجواء السائدة راهناً. بل يجب أن نتمتّع بالشفافية والوضوح، والأهم أن نُسمِع صوتنا جيداً.