علي العميم

 أنبأتنا جريدة «سبق» الإلكترونية قبل نحو ثلاثة أسابيع أنها «علمت من مصادرها أن وزير التعليم السعودي الدكتور أحمد العيسى، وجَّه برقية خطية عاجلة لجميع مديري الجامعات، تتضمن ضرورة المعالجة العاجلة لما لوحظ من إهمال بعض الجامعات في تطوير محتوى مقررات الثقافة الإسلامية، فأصبحت تفتقر إلى المحتوى العلمي الرصين الذي يعزز الوسطية والاعتدال والهوية الوطنية الأصيلة، ويحمي الطلاب والطالبات من مخاطر الانسياق خلف التيارات المنحرفة».

ولأن مقررات الثقافة الإسلامية أصبحت تفتقر إلى المحتوى العلمي الرصين الذي... إلخ، فإن الوزير - كما أنبأتنا بذلك تلك الجريدة - «شدّد على مديري الجامعات بسرعة تشكيل لجنة متخصصة من أعضاء هيئة التدريس المشهود لهم بالكفاءة العلمية والاعتدال، لمراجعة تلك المقررات وما تحتويه من مفردات، مع التشديد على اللجنة بأهمية استثمار تلك المقررات بما يخدم الوحدة الوطنية، وتعزيز روح الانتماء، وانتفاء ما يعزز الغلو والتطرف والكراهية ضد الشعوب والثقافات الأخرى».

أقول تعليقاً على ما جاء في برقية الوزير: إن مقررات الثقافة الإسلامية ما كانت يوماً ما تتضمن محتوى علمياً رصيناً، وما كانت في يوم ما تعزز الوسطية والاعتدال والهوية الوطنية منذ بدأ تدريسها في كلية الشريعة بالجامعة السورية (جامعة دمشق فيما بعد)، في منتصف خمسينات القرن الماضي، بل زاد غلوها وتطرفها ابتداءً من أول السبعينات الميلادية وأوسطها. فالفكر الإسلامي الأصولي هو مقرر أو مادة الثقافة الإسلامية، ومادة الثقافة الإسلامية هي الفكر الإسلامي الأصولي بالمنحى الذي سلكه في مسيرته التاريخية مع توالي العقود أكثر فأكثر، رغم أن ذلك الفكر - الفكر الإسلامي بعمومه - نشأ نشأة نهضوية، وكانت امتداداته في أول القرن العشرين إلى منتصفه تبشِّر بأنه في وجهه الغالب سيحافظ على مسار خطِّي ارتقائي وتطويري تحديثي.
وأنفي بلغة قاطعة أن مادة الثقافة الإسلامية تفتقر إلى ما «يحمي الطلاب والطالبات من مخاطر الانسياق خلف التيارات المنحرفة». فمحاربة ما يسميه الإسلاميون وسماه الوزير في برقيته بـ«التيارات المنحرفة» في عالم الإسلام المعاصر وفي عالمه القديم، موضوع رئيسي في مادة الثقافة الإسلامية، ومما يؤكد تضخم هذا الموضوع فيها أن «مذاهب فكرية»، هو اسم آخر لتلك المادة. وتحت هذا المسمّى أفلح الإخواني الإسلامي السوري محمد أمين المصري، في إدخالها ضمن برنامج الدراسات العليا لفرع العقيدة بكلية الشريعة بمكة في أول السبعينات الميلادية، حين كان رئيساً لقسم الدراسات العليا في هذه الكلية، وأوكل إلى محمد قطب مهمة وضع منهجها وتدريسها في الكلية.

السؤال المحيّر! كيف يأمل الوزير من اللجنة المتخصصة التي شدد على مديري الجامعات بسرعة تشكيلها لمراجعة مادة الثقافة الإسلامية، أن تتمكن من استثمار مادة الثقافة الإسلامية، بما يخدم الوحدة الوطنية وانتفاء ما يعزز الغلو والتطرف، والمادة منذ بدء وانتشار تدريسها في بعض الجامعات العربية، وفي كل الجامعات السعودية، وفي مرحلة التعليم ما قبل الجامعي في السعودية، وهي في الوضع المومأ إليه آنفاً؟! وكيف يأمل منها أن تحقق انتفاء الكراهية ضد الشعوب والثقافات الأخرى، وهو نفسه استخدم في برقيته تعبيراً شائعاً ورسمياً في تلك المادة - وأعني به تعبير التيارات المنحرفة! - الذي يُستخدَم فيها حيال الآيديولوجيات الدنيوية والمذاهب والنحل الدينية والمذاهب الأدبية والنقدية والفنية؟!
إن مادة الثقافة الإسلامية، في بعض أقسام التعليم العالي، وفي كل التعليم الجامعي، وما قبل الجامعي في السعودية - على اختلاف نسخها العديدة واختلاف كتبتها العديدين - هي هي ولا يوجد بينها اختلافات ذات بال. كما أنها لم تكن في حال ثم أصبحت في بعض الجامعات في حال آخر، نظراً لإهمال هذا البعض تطوير محتواها!
ليت الأمر كما صورته البرقية، فلو كان كما صورته لأمكن تداركه بـ«معالجة عاجلة»، لكن المعضلة - معضلة مادة الثقافة الإسلامية - أكبر بكثير مما صوّرته البرقية، ومن مطالباتها بمراجعة مقرراتها وما تحتويه من مفردات أو موضوعات.

وآخر هذه الملحوظات - ولعلها أهونها - على القسم الأول الذي اقتطعته من نص برقية الوزير، هو أن وصف الهوية الوطنية وتحديد نوعها بكلمة «الأصيلة» في سياق الحديث عن مادة الثقافة الإسلامية يوحي بأن ثمة هوية وطنية غير أصيلة. وفي هذا السياق، نعرف أن مادة الثقافة الإسلامية، ووجهها الآخر الفكر الإسلامي الأصولي، يدعوان حصراً إلى الانتماء إلى هوية دينية أممية واحدة، ويناهضان الهوية الوطنية - مطلق الهوية والآيديولوجيا الوطنية - لكل بلد عربي وإسلامي.
إن تصوير واقع مادة الثقافة الإسلامية بما هو على غير ما هي عليه فعلاً، ووقوعها في اللاتساوق فيما تأمله منها، ليس سببه أنه يداري الدينيين المحافظين التقليديين، ويناور المتشددين والغلاة منهم، لأنه صُنّف عند تلك الفئات بأنه «ليبرالي جداً»، خصوصاً بعد صدور كتابه «إصلاح التعليم في السعودية بين غياب الرؤية السياسية وتوجس الثقافة الدينية وعجز الإدارة التربوية»، حينما كان مديراً لجامعة اليمامة الأهلية، وقد خلق هذا الوهم المبالغ فيه جداً حول الكتاب وحول مؤلفه، مقال دعائيّ وتسويقيّ فاقع للكتاب، كتبه الراحل الكبير الدكتور غازي القصيبي - رحمه الله - وكان عنوانه «امنعوا هذا الكتاب الخطر جداً!»، وإنما سببه أن الوزير ما زال يسبح في فلك مادة الثقافة الإسلامية، وأنه ما زال يفكر من خلال منطقها ويخضع لبعض أطاريحها. وليس أدل على ذلك من قوله في ذلك الكتاب المصنف والمتهم - زوراً وبهتاناً - بأنه كتاب جريء وخطر لمحتواه التحرري والنقدي: «إن من سلبيات التعليم الديني المتخصص أنه لا يوفر للطالب فرصة تغيير مساره المهني في المستقبل، فمدارس تحفيظ القرآن والمعاهد العلمية المتوسطة والثانوية تقود الطلبة إلى الكليات الشرعية والنظرية في الجامعات، بينما لا تمنحهم فرصاً واسعة في الكليات العلمية الطبية والهندسية، وكليات الحاسب الآلي والإدارة، بسبب ضعف تأهيلهم في العلوم الطبيعية واللغات والرياضيات».

ما السلبية أو المأخذ أو الخطأ هنا، وماذا يريد بملحوظته هذه؟!

فخريجو القسم الأدبي في الثانويات العامة، التي هي خارج نطاق التعليم الديني المتخصص، الذين درسوا شيئاً من العلوم الطبيعية والرياضيات في المرحلة الابتدائية والمتوسطة وأول ثانوي، وشيئاً من الإنجليزية في المرحلة المتوسطة وفي المرحلة الثانوية، لا تمنحهم الكليات العلمية، الطبية والهندسية وكليات الحاسب الآلي، حق دخولها. وهذا أمر سائغ منطقياً ومبرر عملياً، وليس فيه ظلم لهم، ولا جور عليهم. وإذا كان هؤلاء، وهم زملاء ورفقاء لخريجي القسم العلمي في الثانويات العامة في تحصيلهم الدراسي لمدة عشر سنوات، لا يحق لهم دخول هذه الكليات، فمن باب أولى ألا يحق لطلبة اقتصرت دراستهم على حفظ القرآن، كخريجي مدارس تحفيظ القرآن، وطلبة اقتصرت دراستهم على العلوم الدينية وعلوم اللغة العربية وآدابها، كخريجي المعاهد العلمية الثانوية.
وكما أربك الوزير في برقيته - للوهلة الأولى - معلوماتي حول واقع مادة الثقافة الإسلامية، فإنه كان قد أربكها حينما كان مديراً لجامعة أهلية حول شرط أساسي في قبول الكليات العلمية لخريجي المدارس الثانوية، وذلك حينما قال في النص الذي اقتبسناه من كتابه: إن الكليات العلمية لا تمنح فرصاً واسعة لخريجي مدارس تحفيظ القرآن وخريجي المعاهد العلمية الثانوية. ففهمت من قوله هذا - ولأول وهلة أيضاً - أنه يُتاح لهؤلاء فرصة الدخول إلى الكليات العلمية، لكن على نطاق ضيق ومحدود! فيما أعرف أن خريج المعاهد العلمية الثانوية يحق له أن يدرس الإدارة، مثله في هذا مثل خريج الثانوية العامة. فالكلية التي تقبل الخريج الأخير، تقبل الخريج الأول.

إذن فالطالب في المعاهد العلمية بإمكانه أن يغير مساره المهني والوظيفي في المستقبل. وكذلك الطالب في مدارس تحفيظ القرآن يمكنه أن يفعل ذلك، وإن كان على نحو أقل من الطالب في المعهد العلمي. فلقد عرفت مما قاله في ملحوظته السابقة، أن الأخير يمكنه أن يدرس في كليات العلوم الدينية، وفي كليات العلوم الاجتماعية والإنسانية.
وعليه نسأل: هل تغيير المسار المهني والوظيفي للطالب في المعاهد العلمية الثانوية والطالب في مدارس تحفيظ القرآن، هو أن يكون حصراً طبيباً ومهندساً وخريِّج حاسب آلي؟!
ولماذا اقتصر حدبه وحنانه على طلاب المعاهد العلمية الثانوية وعلى طلاب مدارس تحفيظ القرآن الذين - يا للأسى - أبواب تلك الكليات الثلاث مغلقة أمامهم، ولم يشمل بحدبه وحنانه طلاب القسم الأدبي في الثانويات العامة، الذين أغفل ذكرهم، رغم أنه من خريجي هذا القسم، ولم يتخرج في المعهد العلمي الثانوي ولا في مدرسة لتحفيظ القرآن؟!