علي العبدالله 

كشفت التطورات الميدانية الأخيرة على الساحة السورية رفضاً صريحاً للتوازن القائم ومحاولات حثيثة لتعديله. فالهجوم التركي على عفرين، والإيراني في إدلب، والإيراني الروسي في دير الزور، وإسقاط القاذفة الإسرائيلية وما تبعها من غارات إسرائيلية طاولت أهدافاً كثيرة، والقصف الوحشي على الغوطة الشرقية، ليست إلا تجليات لهذا الرفض.

أوضحت الولايات المتحدة من خلال وثيقة «إستراتيجية الدفاع الوطني»، التي أصدرها وزير الدفاع جيمس ماتيس، منطلقها في التعاطي مع الوضع الدولي باعتبار المنافسة الإستراتيجية بين الدول، وليس الإرهاب، هي الآن الشاغل الرئيسي للأمن القومي الأميركي. وقد جاءت خطواتها الميدانية بإعلان بقاء قواتها على الأرض السورية لفترة غير محددة، وربطه بالوصول إلى حل سياسي يلبي تطلعات الشعب السوري في اختيار قيادته في نظام ديموقراطي، بمثابة تحديد لملامح النظام الإقليمي وموقعها فيه: موقع مقرر من خلال المشاركة في تقرير مصير سورية والعراق.

لم ترد تركيا وروسيا وإيران، كل لحسابات خاصة به، بعملياتها العسكرية التعبير عن رفضها امواقف السياسية التي أعلنتها الولايات المتحدة الأميركية فقط بل وفرض وقائع ميدانية تعزز أوراقها التفاوضية في مواجهتها. لم تكتف روسيا بإبراز شرعية وجود قواتها على الأرض السورية (كان لافتاً تبرير الإعلام الروسي دور روسيا في قتل آلاف السوريين وتشريد وتهجير الملايين بربطه بشرعية الوجود: جاءت القوات بدعوة من الحكومة الشرعية) في مقابل عدم شرعية الوجود الأميركي، بل ودعت كل الدول التي دخلت الأرض السورية من دون دعوة من النظام إلى الحوار مع الأخير للحصول على موافقته، واتهمت واشنطن بـ «تقويض وحدة الأراضي السورية من خلال إقامة كيان كردي على جزء كبير من الأراضي السورية في الضفة الشرقية لنهر الفرات وحتى الحدود العراقية»، وفق تصريح وزير الخارجية سيرغي لافروف، فروسيا، التي أعلنت «انتصارها» ووزعت أوسمة على ضباطها، ساءها نجاح واشنطن في إفشال مؤتمر سوتشي، إن بإصرارها على مسار جنيف وطرحها تصوراً للحل في سورية (حديث وزير الخارجية ريكس تيلرسون في جامعة ستانفورد) يتعارض مع تصورها، أو بالعمل على إحياء العملية السياسية في جنيف بالاتفاق مع بريطانيا وفرنسا والسعودية والأردن وتقديم مقترح بهذا الخصوص إلى المبعوث الدولي ستيفان دي ميستورا أطلق عليه وصف اللاورقة، أي مقترحاً غير رسمي، فحركت، بمشاركة ميليشيا إيرانية، قوة من جيش فاغنر، قوات روسية غير نظامية أحضرتها إلى سورية للقتال إلى جانب النظام بعقد رسمي تحصل بموجبه على حصة من حقول النفط والغاز التي تسيطر عليها، لمهاجمة معمل غاز كونيكو في محافظة دير الزور، في تحد صريح للخط الأحمر الأميركي، لكنها تلقت رداً صارماً وقاسياً من القوات الأميركية، جاء بمثابة رصاصة الرحمة على إعلانها «النصر»، وعززت قدراتها العسكرية بطائرات سوخوي 57 وسفن وبوارج حربية في إعلان عملي عن استعدادها لدعم النظام حتى النهاية.

تركيا، التي قرأت في الإعلان الأميركي عن تشكيل قوة حرس حدود من 30 ألف عنصر، معظمهم من «وحدات حماية الشعب» الكردية، لنشرها على الحدود السورية التركية والسورية العراقية توجهاً أميركياً لإضعاف مكانتها ودورها في حلف الأطلسي(الناتو) بإقامة كيان كردي يحقق لها المزايا الإستراتيجية ذاتها، اختارت الهجوم على عفرين بعيداً من الوجود العسكري الأميركي في منبج وشمال شرق الفرات للضغط على واشنطن على أمل استدراج عرض أميركي في الملفات العالقة بينهما (تسليح «الوحدات» الكردية، منبج، تسليم فتح الله غولين).

لكن خطتها قادت إلى خسارة مزدوجة: تقديم تنازلات للنظام وحلفائه بغضها النظر عن هجومه مع الميليشيات الإيرانية على منطقة شرق سكة حديد الحجاز في محافظة إدلب والسيطرة على مساحات واسعة، بما في ذلك مطار أبو الضهور العسكري، وتقديم هدية مجانية للنظام بعودته إلى عفرين. وذلك من دون أن تحقق أي من أهدافها الأميركية بل على العكس زادت الهوة بينهما وقد تجلى ذلك في قرار البنتاغون رصد مبلغ 550 مليون دولار، لتشكيل قوة حرس الحدود 200 مليون ولإعادة إعمار شمال شرق الفرات 350 مليون، وإعلان الجنرال الأميركي بول فونك عن بقاء القوات الأميركية في مدينة منبج، التي تسيطر عليها «قوات سورية الديموقراطية»، لفترة طويلة، وأن بلاده سترد وستدافع عن قواتها في حال تعرضها لهجوم تركي. إيران، التي أدركت عبثية إعلانها تحقيق هدفها الربط بين طهران وبيروت مروراً في سورية والعراق في ضوء الوجود العسكري الأميركي بجوار هذا الممر، وسعي واشنطن إلى إقامة قواعد عسكرية قرب الحدود العراقية - الإيرانية، لوحت بتكرار تجربة العراق في مواجهة القوات الأميركية (طالب علي أكبر ولايتي، كبير مستشاري المرشد الأعلى الإيراني، من بغداد ما وصفه بـ «جبهة المقاومة» بمنع انتشار القوات الأميركية شرق الفرات، محذراً من مخططات واشنطن لتقسيم وبث الخلافات في المنطقة) ولتأكيد عزمها شاركت ميليشيا تابعة لها مع قوة من جيش فاغنر في الهجوم على معمل كونيكو في محافظة دير الزور. إسرائيل، التي تتوجس من التحركات الإيرانية على الأرض السورية إن لجهة إقامة قواعد وصناعة عسكرية أو لجهة نقل أسلحة متطورة إلى «حزب الله»، ردت على اختراق طائرة «الدرون» الإيرانية حدودها بقصف مطار التي فور، وعلى إسقاط القاذفة الـ «ف 16» بقصف دفاعات جوية وقواعد عسكرية في اثني عشر موقعاً للنظام وإيران.