سالم سالمين النعيمي

يعد تناول الدين والتدين بين أوساط العديد من المثقفين العرب أمراً مثيراً للجدل الواسع، حيث يتحدث الكثير منهم عن توظيف زائف للدين في صراعات المال والسياسة والنفوذ والهيمنة، وهي حقيقة قائمة في كل الديانات طوال تاريخ نشأة الدين في البشرية. ولطالما وضع الدين في قفص الاتهام ووصف بأنه رجعيه أو تراجع حضاري وللتعميم من خلال تصرفات الأفراد أو التنظيمات التي تسيء للدين والتدين كنهج حياة معتدل يرتقي بقيمة الإنسان وإنسانيته، والممارسة النموذجية للتدين كشعائر روحية، لم تلق رواجاً كبيراً بين بعض الشعوب، وذلك لطبيعتهم النفسية والاجتماعية والبيئة التي خرجوا منها، ناهيك عن أن الإنسان يميل في طبيعته لجعل ما اعتاد عليه من عادات وتقاليد وقيم هي جوهر ممارسته للدين والتدين، أو تحوير الدين ليتأقلم مع أولوياته الدنيوية أو فهمه وتفسيره، الذي يعكس مفاهيمه الأساسية لمعنى الحياة والأخلاق وفلسفته لما يجب أن يمثل الدين له ولمحيطه الاجتماعي في تقريب وتقارب متناسق مع العقل الجمعي لتلك الشعوب، والمثقف جزء من تلك المنظومة، والثقافة ليست حكراً على أحد. ومن المعيب أن يقول البعض إنه لا يمكن أن يكون المتدين مثقفاً حقيقياً، وهو منغلق ومتقوقع في جعل ثقافته تنطلق فقط من منطلق ديني، ولا إشكالية إنْ كان كذلك شريطة ألا يضع غيره ضمن تصنيف منفرد ويجعله خصمه، لمجرد أنه مختلف عنه.

فمن يصف نفسه بأنه مثقف، من المستبعد أن يكون إقصائياً، ويشرع في ازدراء الدين واحتقاره للتدين كحراك رجعي، وذلك أثر الفهم المبسط، الذي قد يصل للسذاجة لحقيقة الدين، وإن كانت النسخة الحالية للدين ككل وليس الموحى منه وتجليات التدين وأنماط معينة منه عليها علامات استفهام كبيرة، وهناك كهنوتية ُتمارس بصورة أو بأخرى هنا وهناك، وهي واضحه للعيان، ولكن بالمقابل هناك ثوابت شخصية لكل كائن بشري خاضعة للتحول والنشوء والترقي، ولا إيمان بلا أخلاق، ولا أخلاق من دون إنسانية، والفجوة التي حدثت هي جعل الطقوس الدينية أهم مرتكزات الدين، واختزال الحياة في الاستعداد للآخرة، ولذلك ظهرت المدارس المختلفة، والفرق التي تقود الناس كالقطيع لاجتياز الحياة بأمان للآخرة في وصفة دينية هي حق حصري لشيوخ وفقهاء تلك الفرق.

فالمثقف حبيس بيئته الثقافية الخاصة، ومن يدور في مداره الثقافي متجاهلاًٍ أن هناك حواجز وعراقيل بينه وبين المتلقي والشارع المسلم الذي لا يرى الإضافة من المثقفين لحياتهم اليومية، فلا يستطيع المثقف أن يستقدم العقل دون أن يغرقه في شكل وإشكاليات العقلانية التي يجب أن يكون لها مرجع، وبالتالي قتل الإبداع والتجديد والابتكار، وأن يأتي بما هو جديد حاله حال المتدين، الذي يُقدس الموروث، ويرفض أن يكون محل نقد وتمحيص، ومن هنا أصبح للمثقف دور رسالي ينافس به الداعية، وهو ما جعلني أعتبر المثقف هو من يملك المعلومة ويحولها لمعرفة ويقوم بتطبيقها بعد نقدها وتجريبها وفحصها. أما من يملك المعلومات الكثيرة المتنوعة وهي لا أثر لها في واقع حياته، فهو مطلع ولا يستحق أن نطلق عليه مسمى مثقف.

ولهذا قد لا يكون المثقف شخصاً بالضرورة يحمل شهادة علمية، ولكنه شخص مؤثر في الجانب الثقافي والأدبي وغيرها من الجوانب. وتعريف المثقف يختلف من زمان إلى زمان، فالمثقف الآن هو متخصص في نوع معين من الثقافة في إطار عام ومرتبط بمنظومة عليا، قد تكون علمية أو فكرية أو معرفية وحاضنة كأن نقول ثقافة إسلامية. ولكن لا ضرر في أن ينطلق المثقف من بيئة غير بيئته، ويأخذ من كل علم وفن، ولديه الاستعداد الدائم لتجدد وإعادة صياغة توجهاته وقناعاته، ولذلك لا يوجد معيار ثابت لمصطلح المثقف، أو ربطه بالمدنية ذات الصبغة الحضارية، حيث إن المدنية والثقافة لهما جانب إيجابي وآخر سلبي، وكل ذلك يعتمد على زاوية الرؤية، كأن ينتقد المثقف العلماني على سبيل المثال الفكر الديني، وهو لم يقرأ في حياته بعمق في الشأن الديني، ويبلور رأياً خاصاً به بعيداً عن خلفيته الفكرية والمعرفية التي اكتسبها بالتبعية الفكرية، ولذلك هو عقل مبني على عقل وليس على تعقل سببي وتحليلي.

فهناك جاهلية حديثة ترتبط بالتقليد الأعمى والانصياع خلف رأي الأغلبية حتى بين صفوف المثقفين، حيث إن المثقف المستنير يقرأ الكتاب ويتأثر فيه، ويؤثر فيه بالرد عليه أو بنقده له بصورة أو بأخرى بينما سواه يقرأ المراجع ليتأثر، ولا يؤثر بها، ويكتفي بالدهشة وتجميع المعلومات.