زياد الدريس

يتجدّد عندي الاعتزاز والسعادة كلما تذكرت أن آخر خطاب أصدرته من مكتبي قبل مغادرتي العمل في منظمة اليونسكو، كان طلب تسجيل (المعلقات السبع) من عيون الشعر العربي في لائحة التراث العالمي الشفوي. وحسب علمي، أن إجراءات التسجيل سارية الآن وأرجو أن لا تتأخر كثيراً.

تذكرت هذا مجدداً، عندما حضرت (أوبرا عنتر وعبلة) على مسرح جامعة الأميرة نورة في مدينة الرياض، الأسبوع الماضي، وسط حضور نوعي كثيف اكتظّت به القاعة على مدى ليلتين متواليتين.

لم تغب عن ذاكرتنا الشخصية أبداً قصة الحب الأسطورية بين عنترة بن شداد ومعشوقته عبلة، لكنها غابت للأسف عن الذاكرة الثقافية عبر قوالبها الفنية المتعددة، حتى أصبح الجيل الجديد يعرف أن هناك بطلاً تاريخياً اسمه عنترة بن شداد، لكنه لا يعرف هل هو فارس مقاتل أم عاشق مقتول أم كلاهما؟!

كان يمكن شخصية عنترة أن تنقرض أو تتحول إلى شبه أسطورة على وشك التلاشي، لولا معلقته الشعرية التي خلّدته رغم أنف الإهمال.

هل غادر الشعراء من متردّم أم هل عرفت الدار بعد توهّم

جميلٌ أن تكون أول أوبرا تُقدم باللغة العربية هي عن حكاية عنترة وعبلة، والأجمل أن هذه الأوبرا، بعد أن جالت بها أوبرا لبنان بين عدد من الدول العربية، حان وقت عرضها في موطن أبطالها بوسط الجزيرة العربية (بلدة الجواء غير البعيدة من مدينة الرياض):

يا دار عبلة بالجواء تكلّمي وعِمي صباحاً دار عبلة واسلمي

قصة عنترة ليست مجرد قصة حب فقط، لكنها حكاية مدكوكة بالكثير من الدلالات الاجتماعية والثقافية المرتبطة بالأنساق الطبقية والعنصرية التي ما زالت ساكنة في الذهنية العربية، ولم تستطع قرابة ١٥٠٠ سنة من تغييبها أو حتى تذويبها.

استطاع مؤلف النص أنطوان معلوف، بمساندة الموسيقي مارون الراعي، حشو العرض المسرحي لحكاية تاريخية بحزمة من الإسقاطات العصرية على مشكلات العرب الآن: شهوة الحروب وجشع تجار السلاح، والعنصريات المتنوعة التي تُشعل الحروب ثم تُشعلها الحروب، في تبادل أدوار بغيض بين الآفتين.

قصة عنترة وعبلة ليست مجرد حكاية عشق رومانسية، كما أن عرضها بأية صيغة فنية لا يمكن أن يكون مجرد ترفيه وتسلية ومتعة، بل هي قصة ثقافة إنسانية موجعة، وآلامها ما زالت تعاود جسد الإنسان حتى اليوم، وكل عمل فني يتمثلها هو عمل ثقافي بامتياز.

(أوبرا عنتر وعبلة) تستعيد الشخوص التاريخية، لكنها لا تستعيد دلالات القصة لأنها ما زالت حيّة حتى اليوم.