رضوان زيادة

 وصف الصحافي والوزير الراحل غسان تويني الحرب الأهلية اللبنانية التي امتدت على مدى 15 عاماً بأنها «حروب الآخرين على أرض لبنان». هذا الوصف ينطبق تماماً على ما آلت إليه الحرب السورية حتى الأسبوعين الماضيين، فإسرائيل دخلت في حرب معلنة ضد إيران في سورية، والولايات المتحدة تقصف أهدافاً داخل الأراضي السورية في تحدٍّ للحماية الروسية لقوات النظام السوري، أما تركيا فتحارب النسخة السورية من حزب العمال الكردستاني على الأراضي السورية في منبج، ولم يبق من «السيادة» السورية التي يتبجح النظام السوري بتكرارها سوى هذا المقعد «اليتيم» في الأمم المتحدة الذي أصبح يرمز إلى دولة فاشلة نصف سكانها لاجئ وأكثر من 87 منهم نازح داخل وطنه يعيش في فقر مدقع. ولا تمتلك مؤسسات الدولة أي قدرة على تأمين الخدمات الأساسية من مياه وكهرباء، فضلاً عن كونها لا تسيطر على سوى 60 في المئة من الأرض حيث تتوزع البقية بين مناطق تسيطر عليها دول، من روسيا إلى الولايات المتحدة إلى تركيا. وتبقى السماء مفتوحة لكل من يرغب في قصف من أي نوع ضد أي فريق، فالولايات المتحدة تقصف أهدافاً تدّعي أنها لـ «داعش» أو لـ «جبهة النصرة» وروسيا تقصف مستشفيات ومراكز طبية كما فعلت خلال الأسبوعين الماضيين في إدلب والغوطة الشرقية، أما تركيا فتقصف مواقع تسيطر عليها قوات سورية الديموقراطية في مناطق مثل عفرين، وربما تنتقل قريباً إلى منبج.

الخريطة لا تبدو صعبة بالنسبة إلى المراقب لكنها تبدو مستحيلة التفسير بالنسبة إلى السوريين أنفسهم. كيف قادت تظاهرات سلمية تطالب بتغيير شكل نظام الحكم نحو نموذج أكثر انفتاحاً وديموقراطية إلى حرب دولية على الأرض السورية ضحاياها الآلاف شهرياً، فوفقاً للأمم المتحدة سقط أكثر من ألف مدني في العمليات العسكرية الأخيرة في منطقتي إدلب والغوطة الشرقية في أسوأ تصعيد عسكري منذ الاتفاق على ما يسمى مناطق خفض التصعيد العسكري في محادثات آستانة.

تورطت إيران في الأزمة السورية منذ يومها الأول تقريباً عبر الدعم السياسي لنظام الأسد وبعد أشهر انتقلت إلى مرحلة أخرى عبر ما سمّته تقديم المستشارين السياسيين والعسكريين للنظام السوري بهدف الاستفادة من خبرتهم في قمع التظاهرات السلمية في إيران خلال الثورة الخضراء، وقدّم هؤلاء خبراتهم لنظام الأسد في اعتقال مئات الألوف من الناشطين والمتظاهرين السلميين في المدن السورية المختلفة بدء من أيار (مايو) 2011. ومع تحول الثورة السورية إلى ثورة مسلحة بداية عام 2012، بدأت إيران إرسال دفعات كبيرة من مقاتلي الحرس الثوري الذي بدأ يشرف على نصب الحواجز العسكرية في المدن بما فيها دمشق، ومع سيطرة المعارضة السورية على أجزاء كبيرة من حلب ثاني كبرى المدن السورية بدأت إيران استراتيجية جديدة تعتمد على إرسال الميليشيات الطائفية التي تجلبها من لبنان ممثلة في «حزب الله»، أو ميليشيات شيعية عراقية، وفي مرحلة تالية ميليشيا ما يسمى «فاطميون» و «زينبيون» وهم عن اللاجئين الباكستانيين والأفغان الشيعة المقيمين في إيران، يجندهم النظام الإيراني ويرسلهم بكثافة إلى المدن السورية مع اضمحلال دور الجيش السوري النظامي وانشقاق معظم المقاتلين عنه.

استطاعت هذه الاستراتيجية استعادة عدد من البلدات والمدن السورية من المعارضة السورية المسلحة، لكنها خلقت شرخاً طائفياً عميقاً داخل المجتمع السوري زادت من اعتماد النظام على الدعم الإيراني العسكري والاقتصادي، بحيث ارتهن القرار السياسي تماماً لمصالح طهران في المنطقة وخياراتها السياسية.

ومع إسقاط مضادات الدفاع الأرضية التابعة للنظام السوري طائرة أف 16 إسرائيلية كانت تنفذ طلعات في السماء السورية كرد على تحليق إحدى الطائرات المسيرة الإيرانية في سماء الجولان المحتل، تحوّلت سورية إلى ساحة صراع مفتوح بين إيران وإسرائيل، حيث روّجت إيران بقوة ومعها «حزب الله» لإسقاط الطائرة الإسرائيلية وشجعا على إسقاط المزيد منها في حال حلق سلاح الجو الإسرائيلي في السماء السورية، مع العلم أن مضادات الدفاع السورية فشلت سابقاً في إسقاط أية طائرة الإسرائيلية على رغم تواتر الطلعات الإسرائيلية وقصفها أهدافاً سورية عسكرية تابعة للنظام ولـ «حزب الله»، لذلك يدعو نجاح النظام السوري هذه المرة إسرائيل للتفكير ملياً في تنفيذ أية طلعات في المستقبل أو يدفعها للتصعيد في شكل أكبر.

تعتمد إسرائيل في سياستها في سورية على روسيا في شكل أكبر بكثير من اعتمادها على الولايات المتحدة، ويبدو أن روسيا تدعم الخطط الإسرائيلية في القضاء على الميليشيات الإيرانية في سورية وتمدها بمعلومات استخبارية دقيقة، بل إن بعض التقارير أشار إلى دور روسيا نفسها في الضربة الإسرائيلية على المواقع السورية، ما يعني أنها ربما تجبر نظام الأسد على تغيير تحالفاته مع إيران ولو بالقوة على حساب ضمان العلاقة الروسية– الإسرائيلية، فالتعاون الاستخباري والعسكري بين إسرائيل وروسيا سيتم على حساب العلاقة الروسية– الإيرانية.

ولا يمكننا إنهاء الحديث عن الصراعات الإقليمية على الأرض السورية اليوم بعد دخول إسرائيل طرفاً أساسياً ومشاركاً دشنته الضربات العسكرية المستمرة على الأرض السورية، من دون التطرق إلى الدور التركي الذي يحاول توسيع نفوذه بعد أن أدرك تغير المعادلات العسكرية على الأرض وانعدام أي أفق لحل سياسي قريب، فالتقدم التركي في عفرين يبدو مضطرداً، واستطاعت تركيا امتصاص الضغوط الأميركية لإنهاء العملية العسكرية في عفرين قبل القضاء تماماً على وجود قوات الحماية الكردية التابعة لحزب العمال الكردستاني هناك.

تبدو الحرب في سورية وكأنها تدخل مرحلة جديدة من التصعيد الإقليمي يدفع ضحيتها الشعب السوري، وكما قال الأمين العام للأمم المتحدة فإن التصعيد العسكري الأخير يعد من أعنف محطات هذا الصراع خلال ما يناهز السبع سنوات. ففي شباط (فبراير) وحده تحدثت التقارير عما يزيد عن ١٠٠٠ ضحية مدنية للقصف الجوي.

لذلك يبدو الحل السياسي الذي تأمل الولايات المتحدة بالوصول إليه أشبه بالسراب. وإذا كان المجتمع الدولي ما زال يعول على قرار مجلس الأمن الدولي ٢٢٥٤ بوصفه السبيل الأوحد لوقف العنف ووضع حد لمعاناة الشعب السوري، فإن هذا القرار يبدو غير ذي قيمة مع أزيز الطائرات العسكرية التي تؤكد ما سبق أن حصل خلال الحرب اللبنانية، فكأن الحرب في سورية هي «حروب الآخرين على الأرض السورية».