نديم قطيش

 صفحة جديدة في العلاقات اللبنانية السعودية افتتحتها زيارة رئيس الحكومة اللبنانية سعد الحريري إلى الرياض، بلا أدنى شك.

ما بعد الرابع من نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، واستقالة الحريري من الرياض، ثم عودته إلى لبنان، وتراجعه عن الاستقالة، ساد الظن أن علاقة المملكة بلبنان تغيرت.
وبزيارة الحريري الآن، وبسبب ثراء اللحظة السياسية بالدلالات، وحفاوة استقبال رئيس الحكومة اللبنانية، يسود الاعتقاد بازدهار العلاقات السعودية - اللبنانية.
الحقيقة، هي في مكان بين المكانين؛ فالسعودية لا تسمح بأن يتحول لبنان بالكامل إلى قاعدة إيرانية، كما لا تسمح السعودية أو ترضى بشخصنة المصالح السعودية اللبنانية، دعك عن أننا بإزاء ميليشيا إيرانية - لبنانية اسمها «حزب الله» تعد المكون الأبرز في منظومة العدوان على المصالح العربية، كما أنه مكون من مكونات الواقع السياسي والمؤسساتي في لبنان.
الاختراق الذي مثلته زيارة الحريري إلى الرياض، إذن، ثم طبيعة اللقاءات التي أجراها، شكلاً ومضموناً... كل هذا يجري وسط التعقيدات المشار إليها أعلاه، ويحكم بالتالي قراءة اللحظة السعوية اللبنانية الراهنة. وبالتالي، ولئن كان سيمر وقت قبل أن تتضح نتائج هذه الزيارة، من المفيد أن ندقق فيما هي ليست عليه، أقله من زاوية عدم تقزيمها إلى حدود ربطها بالانتخابات النيابية وتحالفاتها أو افتراض أنها مخصصة لإعادة إحياء تحالف 14 آذار أو صيانة العلاقة وترميمها بين هذا المكون وذاك بين مكونات التحالف السيادي!


فلا الوقت المتبقي قبل موعد الانتخابات البرلمانية في 6 مايو (أيار) المقبل يسمح بإحياء تحالف 14 آذار المهزوز، ولا الوقائع السياسية اللبنانية منذ التسوية الرئاسية تسمح بإنعاش المبررات الموضوعية لهذا التحالف بعد عملية خلط الأوراق التي حصلت. كما أن استسهال الدفع نحو اشتباك داخلي مع «حزب الله»، ونسيان أن المعركة معه هي معركة متوسطة إلى طويلة الأمد، ولا يقتصر مسرحها على المسرح الداخلي اللبناني، أثبت أنه استسهال خطير على مصالح كل الأطراف المتفقة على خصومة «حزب الله».
إذ ذاك، لا أتوقع تغييرات كبرى على مستوى التحالفات الانتخابية بعد عودة الحريري من الرياض، وبالأخص لا أتوقع أي تغيير في الرهان العميق على التسوية الرئاسية، أي الرهان على الاصطفاف العاقل للرئيس ميشال عون في الملفات الاستراتيجية إلى جانب مصلحة الدولة.
ثمة ملفان حيويان بعد الانتخابات النيابية، سيحكمان السجال السياسي في لبنان، هما التحكيم الدولي بين لبنان وإسرائيل بشأن حقل الغاز البحري رقم 9 على الحدود بينهما، ومسألة الاستراتيجية الدفاعية، التي لا يمكن إن نجحت ألا أن تكون مسار ترويض جاد لسلاح «حزب الله»، وهو المسار اللبناني الواقعي الوحيد المفتوح أمام اللبنانيين.
في الملفين المرفوضين من قبل «حزب الله»، أي التحكيم الدولي وهو مرفوض علناً لأنه سينتزع من الحزب إمكانية خلق «مزارع شبعا بحرية» وذريعة إضافية لسلاحه، والاستراتيجية الدفاعية وهي مرفوضة من «حزب الله» عبر المراوغة والمماطلة والتسويف، يقف الرئيس عون في صف الدولة ومصالحها بالتفاهم مع الرئيس الحريري.
الإنصاف يقتضي القول إن تجربة الرئيس عون لم تكن دوماً مشجعة حيال العلاقة مع «حزب الله»، وإن عهده شهد اهتزازات عدة بدأ فيها الرجل مسايراً لمنطق الحزب أكثر من منطق الدولة، غير أن الخط التصاعدي لتموضع عون يشي بأن الرجل يتخفف رويداً رويداً من أحمال علاقته بـ«حزب الله».
من هنا، فإن رهاب هيمنة «حزب الله» على البرلمان اللبناني، بنتيجة الانتخابات المقبلة، يبدو لي أنه لا يزال محكوماً بافتراض أن كتلة عون النيابية هي جزء دائم وثابت من كتلة «حزب الله» وحلفائه، وهذا ما لا أدلة عليه إلا بمحاكمة نيات عون أو بالنظر إلى تجربته السابقة حصراً.
لست ممن يراهنون على انفجار العلاقة بين عون و«حزب الله» بالشكل الدراماتيكي الذي يحكم النظر إلى الأمور وفق منطق الأبيض والأسود، لكنني مستعد للرهان على أن الرئيس عون ليس مكوناً ثابتاً ودائماً في جيب «حزب الله» وخياراته.
وبالتالي فإن مرحلة ما بعد الانتخابات النيابية هي مرحلة الاختبار الجاد لقدرة لبنان على الدفاع عن نفسه بوصفه دولة في مواجهة خيارات الميليشيا، وهذا يتطلب أن تكون الدولة ومؤسساتها موضع عناية واحتضان من كل من له مصلحة بعدم تسليم لبنان لـ«حزب الله» وعلى رأس هؤلاء المملكة العربية السعودية.
لا شيء مضموناً، لكنها اللعبة الوحيدة المتاحة الآن هنا.