حجز قراء في عموم مدن فرنسا نسخهم من مذكرات الزعيم اليميني جان ماري لوبين، بحيث نفدت من المكتبات قبل توزيعها، أول من أمس. وتصدر الكتاب قائمة المطبوعات الأكثر مبيعاً لدى شركة البيع بالمراسلة «أمازون». وجاء القسم الأول من المذكرات في 400 صفحة، بعنوان «ابن الأمة»، وفيه يسترجع مؤسس حزب «الجبهة الوطنية» المتطرف مراحل ولادته سنة 1928، وطفولته وصباه، لحين تأسيس حزبه سنة 1972. وأعلن ناشر الكتاب أنه بصدد تهيئة طبعة ثانية، بعد نفاد الـ50 ألف نسخة الأولى. وكانت محكمة الاستئناف في «فيرساي» قد أيدت، الأسبوع الماضي، حكماً ابتدائياً صدر قبل 3 سنوات، يقضي بإبعاد لوبين عن عضوية حزب «الجبهة الوطنية»، الذي تترأسه حالياً ابنته مارين، على أن يبقى رئيساً فخرياً للحزب.


في المذكرات، التي جاءت بمثابة سلاح قوي في الحرب التي يخوضها لوبين ضد ابنته التي «خطفت» منه حركته السياسية، وابتعدت عن خطه المتشدد، يروي المؤلف أنه أصبح ولداً للأمة الفرنسية منذ عرف اليتم وهو في سن الرابعة عشرة، إثر انفجار لغم حربي تحت سفينة الصيد العائدة لأبيه على الساحل الغربي لفرنسا.

وفي استذكاره للجنرال شارل ديغول، البطل التاريخي لفرنسا المعاصرة، لا يتحرج لوبين من القول: «كان يمثل بالنسبة لي مصدراً رهيباً لمعاناة فرنسا». وكان اللقاء الأول بين الرجلين قد جرى في سنة 1945، حين كان ديغول في زيارة لمنطقة «موربيان»، جنوب مقاطعة بروتاني، حيث يقيم لوبين الذي يصف اللقاء: «كنت في السابعة عشرة، وقد ذهبت لرؤية الرجل الكبير ولمسه باليد. ولم يكن قد تعلم بعد مهنة الوجود وسط الجماهير والتفاعل معها، وصافحني دون اهتمام، وبدا لي بشعاً، ونطق ببضع عبارات عادية وهو على منبر موشح بالعلم ثلاثي الألوان، ولم يكن يحمل سحنة بطل، فلا بد للبطل من أن يكون وسيماً مثل القديس ميشال أو الماريشال بيتان؛ لقد كنت محبطاً». وبيتان هو القائد الذي تحالف مع الاحتلال النازي لفرنسا خلال الحرب العالمية الثانية، بينما قاد ديغول قوات فرنسا الحرة، من لندن، لطرد المحتل الألماني من بلده.

نقطة الخلاف الأساسية بين المؤلف والجنرال كانت قضية استقلال الجزائر عن فرنسا. وفي مذكراته، ينفي لوبين أنه لجأ إلى ممارسة التعذيب ضد مجاهدي «جبهة التحرير الجزائرية»، عندما خدم هناك ملازماً في الفوج الأول للمظليين. ويروي أن الجيش الفرنسي كان عائداً من الحرب في شرق آسيا، حيث لاقى عنفاً يتجاوز الخيال، بحيث كان قلع الأظافر يعتبر عملاً شبه إنساني، وكان علينا وضع حد لذلك العنف. وبناء عليه، فقد مارس الجيش الفرنسي أموراً للحصول على اعترافات خلال معركة الجزائر، لكن الوسائل كانت بأقل ما يمكن من العنف. كما يتطرق لوبين إلى الاتهامات التي نشرتها ضده صحيفة «لوموند»، باعتباره مارس التعذيب هناك، مؤكداً أنها «ليست أكثر من مناورة سياسية ضد حزب صاعد، وهي دون أساس».



علاقات عاطفية وعائلية

لكن مذكرات لوبين لا تقتصر على السياسة والمعارك الشخصية، بل يتضمن الجزء الأول، الذي تحول إلى الشغل الشاغل لوسائل الإعلام، علاقاته العاطفية وتجربته الأولى مع المرأة، معترفاً بأنه يحب النساء، لا سيما أنه كان مديد القامة قوياً أشقر الشعر أزرق العينين، الأمر الذي يقول إنه «يروق لبعضهن، فلماذا أمتنع وأحرم نفسي؟». ومن المعروف أن لوبين انفصل عن زوجته الأولى ووالدة بناته الثلاث بييريت لالان، بعد فضيحة مدوية في ثمانينات القرن الماضي، ثم تزوج من جيني لوبين التي ترافقه منذ ربع قرن.

وتبقى حكاية فقدان لوبين للنظر في عينه اليسرى، سنة 1970، مثيرة للجدل. وقد شاع أن الإصابة جرت في أثناء حرب الجزائر، لكن نائبه في حزب «الجبهة الوطنية»، آلان جاميه، روى قبل سنوات أن لوبين أصيب في عينه أثناء شجار كان يدافع فيه عن صديق جزائري، يدعى أحمد جبور. وها هو المؤلف يقدم في مذكراته رواية مختلفة تماماً، حيث يقول إنه فقد عينه في حادث تعرض له في أثناء مشاركته في تحضيرات الحملة الرئاسية لمرشح اليمين المتطرف جان لوي تيكسييه فيانكور. وقد جرى نقله للمستشفى، لكن تشخيص الطبيب كان واضحاً، بوجود نزف داخلي. ورغم خضوعه لعملية جراحية، فإنه فقد النظر في عينه التي اعتاد أن يغطيها، سابقاً، بعصبة سوداء. وفي سنة 1980، استبدل بالعصبة عيناً زجاجية.

وبعد طلاقه من زوجته الأولى، احتفظ لوبين بحضانة بناته الثلاث، اللواتي لعب وجودهن إلى جانبه دوراً في التخفيف من الصلافة التي اتسم بها. وقد سارت ابنته الصغرى مارين على خطاه، وكانت ذراعه اليمنى في حزبه، قبل أن تقود انشقاقاً وتستولي على الحزب، وتختط طريقاً يفترق، ولو ظاهرياً، عن السياسة العنصرية التي اشتهر بها والدها. وفي الجزء الأول من المذكرات، لا يتطرق لوبين كثيراً إلى علاقته ببناته، معتبراً أن الوقت ما زال مبكراً لذلك، وهو قد يسيء لهن حين يحاول البعض استفزازه لأنه لا يفهم كل ما يبدر عنهن من تصرفات، كما لا يفهم انتقاداتهن له، لكنه يعترف بأنه لم يكن حاضراً في حياتهن بشكل كاف في أثناء طفولتهن. ويقول إنه تصرف مع والدتهن باعتبارهما زوجاً وزوجة، وليس أباً وأماً، ويضيف أنه يعتقد بأن البنات كن يفضلن استقلالهن، وقد ظهر ذلك في شخصياتهن. ورغماً عنه، لا يمكن للأب أن يمر مرور الكرام على علاقته بمارين، البنت التي خلفته في رئاسة حزب «الجبهة الوطنية»، وطردته منه، فيكتب بالقسوة المعروفة عنه: «لقد عوقبتْ بما يكفي لكي لا أزيد في إرباكها. وعندما أفكر فيها، يستولي عليّ شعور بالرثاء لها لأنها فشلت في خطتها، وفشل من خطط معها. لقد سعت لأن تجعل مني مبتذلاً، فغرقت في سعيها وفشلها، والأخطر أنها أغرقت الحزب معها».

عدا ذلك، لا يتوقف الزعيم الشهير بتطرفه عند المحاولات الحثيثة التي خاضها لتجميل صورته في أعين ناخبيه، لكنه في مذكراته يكشف عن حب كبير للموسيقى والغناء، ويقول إنه يغني في كل مكان: تحت الدوش، وعلى المائدة مع أصدقائه، وفي المكتب، وفي أثناء المشي أو الإبحار، وحتى على مقاعد البرلمان، وكذلك «لو تركوا لي العنان في الإذاعة»... في كل مكان. وتتراوح أغنياته بين الترانيم التي حفظها من والدته وجدته وأناشيد البحارة وأغنيات سيلين ديون، لكن النمط الموسيقي الوحيد الذي لا يتجاوب معه هو «الراب»؛ الموسيقى الشبابية المنتشرة في ضواحي المهاجرين. ويكتب: «نسبوا لي القول إن هذه الموسيقى الاحتجاجية هي اعتداء وحشي على الشعر الشعبي... وهي بالفعل كذلك؛ أغنيات مليئة بالحقد ضد فرنسا والفرنسيين، وتشوه انسجام لغتنا».