طيب تيزيني 

كانت مقالتي المنشورة هنا مؤخراً قد أتت على مسألة الحداثة والتحديث كطريق لخروج المجتمعات العربية التي تعاني مشكلات أساسية على طريق التقدم، ولاحظت أن بعض قراء المقالة شددوا على أن معاناة مجتمعاتنا إنما تخص جنس النساء، وأفصح بعضهم عن أن التكوين العضوي والنفسي يكرس تلك المعاناة.

أما وجه الاعتراض فركز على العلاقة بين الحداثة والنساء، بدعوى أن هذه «الحداثة» تبقى مفتوحة بحيث تقود إلى المبالغة في التحديث المفرط، خصوصاً أن طريق الحداثة مفتوح على ما لا يحصى من المثيرات! ويركز هذا الاعتراض على أن خطورة «طريق الحداثة» تأتي من أن «الغرب الأوروبي» هو مصدر هذه الأخيرة وليس «الشرق الإسلامي»، نظراً لأن هذا الأخير مازال يتحرك ضمن أُطر عامة يقبل بها معظم أهله.

وبالمقابل، نلاحظ أن الحقول المجتمعية المتصلة بالسياسة العامة مازالت تتحرك بقدرات متباطئة، رغم اشتغالها على آفاق مفتوحة أمام المواطنين في العلاقات الاجتماعية والسياسية والثقافية، لكن دون الدخول في المجتمع بعمق وفاعلية. ويبدو أن طاقة هذا التحرك تنجز خطوات إيجابية ملحوظة، دون أن ترتقي إلى مستوى الحدث الاجتماعي ومقتضياته في عالم عربي يُراد إخضاعه لمصلحة الآخرين الإقليميين.

لقد دلل العالم العربي على عجزه عن الوقوف في وجه خصومه الداخليين والخارجيين، ومرت فترة زمنية مأساوية فشل خلالها الخصوم في تحقيق خططهم رغم بساطة أحول العرب وفقرهم، وهذه المرة دون استثناء بلدان المغرب العربي، سقط حساب الحداثة والديمقراطية معاً في الحياة العامة: لا الحداثة ولا الديمقراطية استطاعت أن تنجز شيئاً، وهذا ما ينعكس في تصريحات المتصارعين على سوريا وفي قلبها. فقد وصل الأمر بالرئيس الروسي إلى أن يفتخر بما حققته أسلحته هناك، والتي دللت على فاعليتها التدميرية الفائقة، كما الأمر بالنسبة للولايات المتحدة وغيرها. وفي هذا السياق قيل إن الحداثة ظهرت خصوصاً في انتصارات الأسلحة الروسية الحديثة، وفي «الديمقراطية» التي نشرت الطائفية كالوباء الأصفر على أيدي القوى الأجنبية، فيما ظلت الشعوب العربية تراقب ممارسات الآخرين في سوريا وغيرها من بلاد العرب.

وفي قلب ذلك كله كانت «الداعشية» تحكم قبضتها على مناطق من العالم العربي، حتى أصبح هذا العالم تحت قبضتين اثنتين تتسابقان على إفقاره وإذلاله وإهانته.

لقد تحدثنا عن الحداثة في العالم العربي وفي سياق «الديمقراطية»، لكن ما وجدناه وأمسكنا به لم يكن أكثر من تعبيرات عن «موت سريري» قد يكون الأكثر مأساوية في تاريخ العالم.

ومع أن الحديث عن الحداثة يقتضي محايثته مع الحديث عن الديمقراطية، من حيث المنبت الفكري النظري، فإن الأمر ليس على هذا النحو دائماً، لاسيما على المستوى النظري العمومي، لكن ما يهمنا في هذا المستوى إنما هو منح الحرية للبشر في التحدث عن ذلك، بالتناغم مع الممارسة المطابقة، وفي إطار هذه الممارسة حال كونها مطابقة للخطاب النظري.

ويبدو الآن أن ذلك الخطاب ليس ممكناً، ناهيك عن المطابقة بين النظرية والواقع. والأمر على صعيد الموقف الإسلامي النهضوي لم يعد باعثاً ولا حافزاً للفعل الواقعي: لقد اضطرب الموقف، وحلّت حالة من الكيدية بين مطالب الموقف النهضوي، وبين إمكانية التأسيس النظري المنهجي للعملية كلها.

لقد انطوت مرحلة تاريخية صعبة من التاريخ العربي المعاصر مع التدخل في أقطار الوطن العربي، وأصبح الأمر «مُلعثماً» بين الفعل المستقبلي وبين الانحباس الذي يفرض نفسه راهناً. لقد عُدنا إلى ما قبل الاستقلال الوطني، تحت قبضة قانون التدمير الذاتي.