عبدالحق عزوزي 

إن الرؤية الشخصية لصانع السياسة أو الخبير الاستراتيجي يجب أن تتضمن نظرة موضوعية للبيئة المحيطة، وتقويماً مسبقاً لنتائج الاستمرارية والتغيير داخل هذه البيئة، بصورة تضمن ازدهار بلاده في المستقبل. ومع أن الخبير الاستراتيجي يعترف بأن المستقبل لا يمكن التنبؤ به على نحو دقيق، فإنه يعتقد أنه يمكن التأثير فيه، وتشكيل ملامحه للوصول إلى نتائج أفضل. وإذا قلنا إن الاستراتيجية لصيقة بالمستقبل، فلأنها تُعنى به، وتحاول تجنب المشكلات المستقبلية الممكنة أو ردعها أو حلها، وهذا هو عمل الاستراتيجي وشغله الشاغل في عالم قائم على التقلب، والتوجس، والتعقيد، والغموض.

الرئيس الروسي في خطابه السنوي للأمة أمام الجمعية الفدرالية (غرفتي البرلمان الروسي) أشار إلى أن بلاده تمكنت من تطوير صواريخ لا مثيل لها في العالم، مشيرا إلى أنها أصبحت تمتلك أسلحة فائقة السرعة قادرة على الوصول إلى أي بقعة في العالم. ‬وتوعّد بالرد ‬القوي ‬على ‬أي ‬اعتداء ‬نووي ‬على ‬بلاده ‬أو ‬أي ‬من ‬حلفائها، ‬مشيرا ‬إلى ‬أنه ‬سيعتبر ‬عدوانا ‬على ‬روسيا. ‬وأشار ‬بوتين ‬إلى ‬تعزيز ‬قدرات ‬قواته ‬العسكرية ‬في ‬القطب ‬الشمالي ‬لحماية ‬مصالحها، ‬وأن ‬بلاده ‬بدأت ‬تطوير ‬صواريخ ‬جديدة ‬عابرة ‬للقارات ‬من ‬طراز «‬سارمات». ‬ولفت ‬إلى ‬أن ‬بلاده ‬طورت ‬صواريخ ‬مجنحة ‬قادرة ‬على ‬حمل ‬رؤوس ‬نووية ‬وعلى ‬تخطي ‬كل ‬منظومات ‬الدفاع ‬الجوي ‬والدروع ‬الصاروخية ‬في ‬العالم. ‬

وفي ‬تعليقه ‬على ‬تصريحات ‬رئيسه، ‬قال ‬وزير ‬الدفاع ‬الروسي ‬سيرغي ‬شويغو ‬إن ‬السلاح ‬الجديد ‬الذي ‬تحدث ‬عنه ‬بوتين ‬سيجنب ‬روسيا ‬سباق ‬تسلح ‬جديدا ‬مع ‬أميركا.

وقال الوزير إن روسيا أنتجت أسلحة قادرة على تجاوز جميع الأنظمة الصاروخية الحالية والمستقبلية الموجودة لدى الغرب، مضيفا أن هذه الأسلحة تهدف للحفاظ على أمن روسيا وسيادتها لعقود قادمة من الأخطار والتهديدات المحتملة. ‬وكشف عن ‬اختبار ‬مقاتلات ‬الجيل ‬الخامس ‬الروسية ‬من ‬طراز ‬سوخوي ‬57 في ‬الأجواء ‬السورية ‬وعودتها ‬بنجاح ‬إلى ‬روسيا، ‬مشيرا ‬إلى ‬أن ‬أجزاء ‬من ‬نظام ‬الدفاع ‬الصاروخي ‬الذي ‬نشره «الناتو» ‬في ‬بولندا ‬ورومانيا ‬وألاسكا ‬يشبه «‬مظلة ‬فيها ‬ثقوب»‬.

وبالطبع فإن تصريحات الرئيس بوتين أحدثت ردود فعل متتالية في أميركا وكبريات العواصم في العالم، حيث اعتبر المسؤولون السياسيون ذلك نوعا من السباق نحو التسلح النووي الجديد، مما يقوض أسس النظام العالمي الحالي المبني على نوع من التوازن المحمود الذي يمنع من استعمال الأسلحة المدمرة بين القوى الكبرى حال نشوب حروب بينها. هذا التوازن هو الذي كان قد مكن العالم من تجنب حرب نووية عالمية إبان الحرب الباردة، ولولاه لرأينا صواريخ نووية عالمية تجوب أراضي المعمورة تدمر وتقتل ملايين البشر.

السؤال المطروح هنا: هل سياسة الرئيس بوتين سياسة استراتيجية؟ من حيث نوعية السلاح المتطورة التي تتوفر عليها اليوم، ومن حيث التأقلم مع المستجدات، يمكن أن نقول: نعم، بل وتتعدى الدول الأوروبية مجتمعة. كما أن التأقلم هو رئة الحياة الاستراتيجية العسكرية التي تمكن حتى التحالفات الدولية من البقاء. ويمكن أن نعطي مثالا لذلك عن الحلف الأطلسي (الناتو). ففي سنة 1991 بدأ المنحى العقلاني يتجه إلى توسيع المفهوم الاستراتيجي ليشمل كل دول أوروبا بما في ذلك الدول التي كانت في الزمن القريب تعد عدوة، في سنة 1999، تمت المصادقة على نص بموجبه تم إدماج الإرهاب كخطر يسمح للحلف بالتدخل العسكري، وفي سنة 2010 صادق الحلف في ليشبونه على مفهوم استراتيجي يعطي الضوء الأخضر للحلف بحماية سكان دول أعضائه داخل وخارج منطقة الحلف، حيث لم تعد أدوار الناتو إقليمية أو منحصرة داخل منطقة دوله الأعضاء، وإنما بدأت تتوسع مع مستلزمات اللحظة الاستراتيجية لتشمل مناطق مختلفة في أنحاء العالم.

عندما نستحضر ذلك نفهم أن التأقلم الاستراتيجي هو ميزان النجاح، هذا على المستوى الدولي، أما على الصعيد الداخلي فإن الاستراتيجية العسكرية تكون مقترنة باستراتيجيات أخرى، اقتصادية وتربوية وتعليمية واجتماعية بل وسياسية، تمكن من تحقيق الرفاهية للفرد والرفع من الإنتاجية ومن الناتج الداخلي الخام. وفي هذا الجانب ما زال ينتظر الدب الروسي زمانا طويلا ليصل إلى ما وصلته الدول الغربية.