إياد أبو شقرا

 كُتِب الكثير... وسيُكتَب أكثر عن زيارة ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان إلى بريطانيا.

هذا الكثير مهمٌ، بلا شك.

الانفتاح السعودي حدثٌ مهمٌ جداً. واستشراف مستقبل فيه من التحديات بقدر ما فيه البشائر يمثّل براغماتية وواقعية مُهمّتَين كذلك. وأيضاً، على جانب كبير من الأهمية ديناميكية الشباب التي ترفض الطمأنينة المُفرطة وتعتبرها تواكلاً مدمّراً، وترفض دفن روح المبادرة بذريعة تحاشي المجازفة، وترفض حرمان نصف المجتمع من تفجير طاقاته الكامنة الواعدة لأسباب ما عادت مُقنعة إلا لأولئك المرتاحين لتجاهل حركة التاريخ.
ثمة اقتناعٌ حقيقي وشجاع بأن التطوّر المدروس ما عاد خياراً... بل غدا ضرورة مُلحّة وواجباً مُلزماً، وها هو يتحقّق وسط تفاؤل مُناقض تماماً للصورة القاتمة التي تُظلّل مناطق عدّة في أرجاء عالمنا العربي الرحب.
حتى المُتحاملون على الرياض في الشارع البريطاني - وهؤلاء، بالمناسبة، ليسوا قِلّة - شاهدوا خلال هذه الزيارة من الوفد الزائر طريقة تعامُل مختلفة. إذ غاب التحفُّظ المُكابر أو المُتجاهِل. والتحسّس من انتقاد الذات صار شيئاً من الماضي، حتى على ألسِنة شخصيات مقرّبة أو قريبة من قلب السلطة. واختفت أو كادت... اللهجة الاعتذارية هنا، والنبرة الغاضبة هناك.
هذه كلها ظواهر واعدة. لكن انطلاقاً من مبدأ «علاج الصدمة» الذي تطرّق إليه الأمير محمد بن سلمان غير مرّة في لقاءاته الإعلامية خلال الأشهر الماضية، يتوجّب المضي قدُماً في إسقاط الأوهام، عند الجانبين البريطاني والسعودي - بل والعربي عموماً. والحقيقة أن الأوهام موجودة، بل ومتراكمة، عند الجانبين.
بعض البريطانيين، ومثلهم بعض الأوروبيين، قد لا يعرفون الكثير عن مشكلاتنا ومطامحنا، وعن مفاهيمنا وثقافتنا. والأسوأ أن بين هؤلاء جماعات وتيارات لا تكترث ولا تريد أصلاً أن تعرف. حتماً، أنا لا أزعم أنه ليست لدينا سلبيات علينا تغييرها اليوم قبل الغد، لكنني ألحظ وجود «ازدواجية معايير» ما زالت تكيل بمكيالين عندما تتعامل هذه الجماعات والتيارات مع قضايانا وشكاوانا ومعاناتنا، وما أكثرها.
وبالتالي، فإن الجزء المُتعمّد من «ازدواجية المعايير» هذه يستحيل علاجه، لأنه نابع أساساً إمّا من عنصريّة أو من حسَد. غير أن الجزء غير المُتعمّد يقوم عادةً على سوء الفهم. وهنا يأتي دورنا في تنظيم أنفسنا والتخطيط بحكمة ومعرفة لمخاطبة العقل الغربي باللغة التي يفهمها، وليس بالأسلوب المثالي أو الارتجالي الذي اعتدنا عليه في بلداننا.
في هذا السياق أشير إلى تجربتين؛ الأولى، قبل بضعة عقود، أثناء دردشة في إحدى حدائق لندن العامة مع صديق فلسطيني - رحمه الله - عندما قال لي بصورة عابرة إن أبناء إحدى العائلات التجارية في مدينة يافا كان وكيلاً لسيارات باكارد الأميركية في فلسطين قبل نكبة 1948. والثانية، قبل بضعة أسابيع، عندما اعتبر مثقفٌ عربي أن تجربة «الإعلام العربي المهاجر» في أوروبا يجب أن تنتهي... وناشد هذا الإعلام العودة إلى المنطقة العربية، بحجّة أن التطوّر التكنولوجي الهائل في «ثورة الاتصالات والتواصل» ألغى الحاجة لوجوده خارج العالم العربي.
كلام صديقي الفلسطيني الراحل أدهشني، فسألته: «كمْ من الناس يا عزيزي يعرفون ما تعرفه؟ هل تظن أن الأميركيين لديهم علم بوجود توكيلات للسيارات الأميركية في فلسطين قبل دولة إسرائيل؟»، فرد ببراءة وبساطة: «لا والله، لا فكرة عندي». وعلى الأثر بادرته بالقول إن اللغة التي استخدمناها مع أميركا منذ عام 1948، وحتى قبله، لا تعني شيئاً للمواطن الأميركي. أن تقول للأميركي إن مهاجرين جُدداً «أخذوا أرضنا» كلام عديم الفائدة، لأنه وأهله وشعبه من المُهاجرين الجُدد الذين استوطنوا أرضاً كانت لغيرهم. وأيضاً لا يعني له شيئاً أن تسرد عليه أرقام قرارات مجلس الأمن حول فلسطين كأنها أرقام صماء في دليل الهاتف. لكن المواطن الأميركي الذي انطلت عليه كذبة «أرض بلا شعب لشعب لا أرض» سيُصدم إذا أخبرته أن بلدك ليست صحراء قاحلة فارغة من السكان جعلها الإسرائيليون «خضراء»، وشرحت له أن سيارات الباكارد والشيفروليه والفورد والكرايسلر كانت تسير في شوارع مدنها... وطبعاً، كانت هناك فنادق ومطاعم ومدارس ومستشفيات ووكالات بواخر. باختصار، علينا أن نفهم كيف يفكّر الأميركي، وما منظومة مُثُله لأن ثقافته غير ثقافتنا.

الشيء نفسه يصدق على موضوع «الصحافة العربية المهاجرة»، التي أنا جزء منها منذ ما يقرب من 40 سنة. فعندما انطلقت الصحف الرائدة في الخارج قيل الكثير عن الأسباب، أبرزها: هجرة الكفاءات العربية وتوافرها في الغرب، والهرب من سوء الأوضاع الأمنية، وتجنّب الرقابة والتمتع بالحرية التحريرية والإعلانية.
إلا أنني، باعتباري شاهداً على تلك المرحلة، أستطيع الزعم أن كل الأسباب المذكورة - على أهميتها - ليست هي العوامل الأهم. ذلك أن وتيرة الهجرة العربية تتسارع، والأوضاع الأمنية في معظم عالمنا العربي - حيث تتكاثر «الدول الفاشلة» - أضحت أسوأ بمراحل ممّا كانت عليه قبل أربعة عقود، والحريات التحريرية والإعلانية لم تختلف كثيراً عما كانت عليه... إن لم تكُن تراجعت.
إن أعظم ما برّر ويبرّر وجود «الصحافة العربية المهاجرة»، واستمرارها حيث هي، في رأيي المتواضع هو التعلم والتفهّم، ومن ثَم التأثّر والتأثير. أن يكون في الغرب حضور إعلام عربي فاعل ورصين، فهذا الحضور يشكل مصدّر تعلّم وتعرّف وتفهّم وتفاعل مع الثقافات والتقاليد، وليس فقط مع التكنولوجيا المتطوّرة.
نحن، بصراحة، لا نستطيع أن نؤثّر في الغرب ما لم نعرفه أكثر ونتفاعل معه أكثر، وقد ينطبق هذا مستقبلاً على الصين والهند أيضاً.
كثيرون منّا جاؤوا إلى دول الغرب وأقاموا فيها لبضع سنوات، ومنهم مَن عاد إلى الوطن بشهادات أكاديمية عليا، غير أنه لانشغاله بالدراسة وحدها، أهمل فهم البيئة التي يعيش فيها. أمثال هؤلاء حالات لا تشكل أبداً النواة المطلوبة لجسر ثقافي - مصلحي تفاعلي مع الغرب. وكلمة «تفاعل» هنا، مثل «علاج الصدمة»، مفتاحٌ لبناء علاقات متينة كفيلة بمواجهة رياح التغيير وتبدّل المصالح.