منال عبدالأحد 

يأتي معرض «تحت القمر نفسه» للفنانة البريطانية إيلين كوبر، وتستضيفه غاليري ليتيسيا في بيروت، حتى 31 من الشهر الجاري، ثمرة زيارتها الأولى إلى لبنان، ومن ثم عودتها لرسم لوحاتها في لندن حيث كثّفت أبحاثها عن الأشياء المميّزة التي أحبّتها في بلاد الأرز.

تعتمد كوبر الرمزية في عملها وتسعى إلى تطوير تيماته بصورة مستمرة. ويرتكز المعرض إلى المشهدية اللبنانية حيث كان بالفعل تحدياً مثيراً لها إذ قدَّم مشاهد صورية جديدة.

بعد زيارتها لبنان، استلهمت من شجر الأرز، الذي بهرها بجماله وحجمه وصلابته، مقاربتها الفنية، حيث ما انفكّت تفكر بالجغرافيا، التاريخ والموروث الثقافي وكلّها عوامل تحدث تحت ضوء القمر نفسه. ما أتاح لها أن تنظر بين الثقافات وأن تعود بالزمن إلى الوراء، إلى الفسيفساء وأشجار الأرز متوغّلة في الحكاية بعمق، مسترسلة برمزيتها، فهي تصوِّر المشهدية في ذاكرتها وكأنها المكان نفسه الذي ينبض بالحياة.

تحضر المرأة بقوة في لوحات كوبر وقد ضمنّتها –أي هذه اللوحات– تجربتها كامرأة، فنانة، أم ومدرِّسة، فهي تركّز في عملها على أهمية المرأة من حيث الخصوبة، الاحتضان والإبداع، إلّا أنها تنطلق أولاً وأخيراً من كونها شريكة للرجل في الوجود.

تحاكي كوبر في أعمالها أيضاً التماثيل التي وجدتها في متحف بيروت وأثارت إعجابها. وفي المعرض عملان منجزان من خلال تقنية فن الحفر الطباعي، التي تعشقها إيلين، كونها تعمل بدقة على الخطوط البيانية الحاضرة بقوة في أعمالها. وهي تؤمِّن أيضاً الانتشار إذ تنجز أكثر من مرة العمل الإبداعي عينه، وفي كل مرة يبدو فريداً ومختلفاً، فهذه التقنية لا تقوم على النسخ بل على إعادة إنتاج العمل الفني مرات عدة.

استقت كوبر إلهامها من الجولة التي أجرتها في بيروت وجبيل والمناطق المحيطة، كما ومن كتاب نينا جيدجيان «لبنان: فسيفساء من الثقافات» الصادر عام 2001.

وبالعودة إلى المرأة، ففي لوحتها «الدويتو الأزرق» (2016) تتّحد المرأة مع السماء وتحيط بها الأزهار من كل حدب وصوب. أما في لوحة «في اللحظة» فإن الأزهار ترمز إلى الإبداع وتحاكي أسطورتي Snow White و Red Rose.

في اللعبة الفنية التي تنتهجها إيلين في لوحاتها ما يشبه الدراما المصغّرة فهي تصنع مشهدية كاملة. ولعلّ الأرزة الخضراء التي تتوسط علم لبنان حدت بها إلى إبرازها في خمس لوحات، فهي لطالما استقت أعمالها من رمزية الأشجار والأساطير.

إيلين، التي تتلمذت على يد الفنان البريطاني بيتر دي فرنسيا، أتت إلى لبنان محمّلة بالكثير من الشغف والتوق للتعرف إليه، فأحبّت فيه شجر الأرز والفسيفساء. وضمَّنت أعمالها هذه العوامل فأتت إبداعاتها الفنية مستوحاة من هذه الأرض وحملت تيمة بلاد الأرز.

القمر محوري في أعمال كوبر، إنّها تحاكي من خلاله الأزلية والعالمية، عبر تعدّد الثقافات والحضارات التي تقبع كلها «تحت القمر نفسه». وترتكز فكرة هذا العنوان إلى كونها قد أعدّت لوحاتها في لندن فيما كانت ترسم لبنان.

تركّز إيلين -كما أسلفنا- على أشجار الأرز في لوحاتها فيبرز هذا التفاعل بين الشخصية والشجرة، ويعبّر عن انسجام كبير ومحاكاة فيما بينهما. هذا والجدير بالذكر، أنها تستقي إلهامها في أحد أعمالها من إحدى لوحات أنطونيو ديل بولاولو في معرض لندن الوطني والتي تصوِّر امرأة تمدّ يدها لالتقاط الأغصان.

من الواضح أن الشجرة في أعمال كوبر تشكّل ملاذاً آمناً للناظر، حيث تسترخي النظرات تحت ظلالها الوارفة. وفي حديث إلى الحياة شدّدت إيلين على أهمية شجرة الأرز لدى الفينيقيين القدماء، والتي صنعوا من أخشابها السفن التجارية والحربية، البيوت والمعابد. لذا كان لا بدّ من أن تستعين بها في امتطائها الرمزية للتعبير عن الموروث الثقافي والحضاري اللبناني.

ولعلّ اللوحة التي تحمل اسم المعرض «تحت القمر نفسه»، بفسيفسائها الجميلة، تعبّر عما استوحته إيلين من معبد أشمون، فمن هذا المكان المقدس لملمت الذاكرة في عمل إبداعي مثقل بالمعاني وغنيّ بعمق دلالته.

وتقول: «أحبّ فكرة أن هذه الفسيفساء تعيش لآلاف السنين، تنظر إلى التاريخ، تخطو خطوات الآخرين، تحت القمر نفسه...».

وتطالعنا كوبر في معرضها بكثير من التجذّر في العمق اللبناني الذي هو بحق نقطة لتلاقي الثقافات الغربية والشرقية وموطناً لجمالات لا تُحصى. وتركّز في أعمالها على المرأة بنفحة إبداعية لا تخلو من الأنثوية الخالصة، ففي لوحة «موزاييك» (2017) ترقص المرأة فوق فسيفساء لحيوانات. ويحضر الرجل في لوحات إيلين شريكاً لها في هذا الوجود الخصب.