مصطفى السعيد

 تقول قصة «فرعون موسى» إنه فور سماعه نبوءة أن هلاكه سيكون على أيدى طفل سيولد قريبا، قرر قتل جميع من يولدون، لكن تلك الجريمة البشعة لم تغير المصير المأساوى للفرعون. هذه القصة يعاد تكرارها رغم دمويتها وفشلها، فالولايات المتحدة وضعت استراتيجية عسكرية تمنع ظهور أى قوة منافسة فى العالم، ونشرت قواتها على نحو 750 قاعدة عسكرية تغطى قارات العالم الست، نشرت فيها نحو نصف مليون عسكري، إلى جانب الأساطيل التى لا تتوقف عن الإبحار فى كل المحيطات والبحار والممرات لتفرض سطوتها على العالم، وأقمار صناعية ترصد كل كبيرة وصغيرة على سطح الأرض، ومعدات تجسس على مكالمات سكان الكرة الأرضية، وشبكة جواسيس فى كل مكان، وتبلغ تكلفة تلك القوات 700 مليار دولار سنويا، وهذه التكلفة الهائلة هى أحد أهم أسباب تدهور الاقتصاد الأمريكى الغارق فى الديون، والعاجز عن المنافسة الحرة مع منتجات الدول البازغة، حتى إن دونالد ترامب انقض على أهم مبادئ الرأسمالية، ومزق بنود اتفاقية التجارة الحرة، وأعلن الحماية الجمركية لعدد من المنتجات الأمريكية المهددة بالخروج من المنافسة.

تعتمد السياسة الأمريكية استراتيجية «فرعون موسي» فى منع ظهور أى دولة تنافسها فى القوة العسكرية أو الاقتصادية، ولا تغفل لها عين فى مراقبة دول وشعوب العالم، لتستطيع التحرك السريع لوأد أى فرصة لظهور موسى جديد، قد يزيح الولايات المتحدة عن عرشها، ولو كانت الإدارات الأمريكية وفرت إنفاقها العسكرى الضخم، ووجهته نحو تطوير منتجاتها، وتحديث بنيتها التحتية الاقتصادية، لكانت ضمنت أن تظل على عرش الاقتصاد والقوة لزمن أطول، لكن الكثيرين يكررون سقطة «فرعون موسى» ويشغلهم وأد المنافسين وليس تطوير القدرات الذاتية، فها هى دول الاتحاد الأوروبى تنضم إلى الصين وروسيا فى رفض سياسات ترامب الرامية إلى ضرب اتفاقية التجارة العالمية الحرة فى مقتل، وتعلن أنها سوف ترد بضربات مماثلة للاقتصاد الأمريكي، لتشتعل الحرب العالمية التجارية، وتزيد من احتمالات الصدام الأعنف، فى الوقت الذى تواصل فيه الصين خططها العسكرية والاقتصادية لإزاحة الولايات المتحدة، بدءا من مواجهة قواتها وقواعدها فى شرق آسيا، وتواصل إعادة بناء طريق الحرير الجديد لتغير خريطة خطوط التجارة، وتقيم تكتلات اقتصادية تعجز الولايات المتحدة عن منافستها، بينما وجهت روسيا صفعة عسكرية مدوية لشبكة الدرع الصاروخية الأمريكية الممتدة من شرق أوروبا إلى الشرق الأوسط حتى شرق آسيا، وجعلتها بلا قيمة عندما أعلنت عن الجيل الجديد من صواريخها العابرة للقارات، والتى لا يمكن أن يطولها أى من دروع أمريكا الصاروخية، لأنها أكثر سرعة وتتحرك فى مسارات لا يمكن التنبؤ بها، وتعجز الرادارات عن رصدها، وتضيع على الولايات المتحدة نفقات إقامة هذه الشبكة من الدروع الصاروخية، وتزيد من أعباء أمريكا وتكسر هيبتها العسكرية التى تراهن على أنها الحامية الرئيسية لعرش تربعها وهيمنتها على العالم.

وتتبع إسرائيل نفس السياسات الرامية إلى وأد أى قوة ترى أنها قد تصبح تهديدا لها فى يوم من الأيام، وتنفى وجود شعب فلسطينى من الأساس، وتعتبر أى مطالب بأرضه إرهابيا عليها قتله، وتراقب كل صغيرة وكبيرة فى الدول المحيطة خشية أن تصبح قوة تنافسها وتهدد أمنها، وترفض أن تمتلك أى دولة أسلحة يمكن أن تشكل تهديدا لها، ومنعت تصدير أسلحة أمريكية متطورة حتى للدول الصديقة لها، فالشكوك تساورها دائما فى أن الجميع يشكلون خطرا عليها، ولهذا يجب ألا يغمض لها جفن، وأن تراقب أى محاولة للدول القريبة منها لتطوير قدراتها الاقتصادية والعسكرية, ولهذا تحدث نيتانياهو أمام الكونجرس الأمريكى عن أن الخطر الإيراني، الذى ترى أنه لا يتمثل فى صواريخها الباليستية أو مشروعها النووي، إنما أيضا فى تطور البحوث العلمية ومستوى الجامعات وعدد العلماء، وهو ما يعكس الرؤية الإسرائيلية الرامية إلى منع أى دولة من امتلاك أى من مقومات القوة، وأن ترى أن الطفل الفلسطينى إذا حصل على تعليم جيد سيشكل خطرا على وجودها، وتسقط فى خطيئة «فرعون موسى» وتحاول منع تحقيق النبوءة بارتكاب سلسة طويلة من الجرائم التى لا يمكن أن تتوقف، وهو ما يوقعها فى بحور من الكراهية لا يمكن أن تنجو منها طويلا، فلا يمكن لأى دولة فى العالم أن توقف حركة التاريخ، ولا يمكن أن تنجح فى منع الشعوب الأخرى من التقدم وامتلاك المعرفة مهما أوتيت من قوة، وهى بذلك تضع نفسها فى صدام لا يمكن أن تربحه فى مواجهة العلم وحركة التاريخ، وأنها قد ارتكبت الكثير من الفظاعات ضد الشعوب دون أن تصل إلى مبتغاها، وسارت فى طريق لا يمكن أن تحصد فيه سوى الكراهية والندم.