محمد الحارثي

المدن مثل البشر، لها ملامح ونكهة وأمزجة، بعضها عابس مهما حاولت أن تبتسم، وهناك مدن منغلقة على ذاتها، تنزعج من أي زائر، ومدن تعشق الماضي وتركض إليه، وأخرى تحتضن اللحظة وتعيش المستقبل. ولقد ظلت بغداد بملامح غامضة، فهذا الاسم يحمل مشاعر مختلفة، فهي التاريخ والحضارة وعمق العروبة، وهي من جهة أخرى ذاكرة حروب وصراعات طائفية وإرهاب. ويعبر بيت للشاعر العراقي أحمد الصافي النجفي، بعد عودته للعراق، عن واقع الحال، إذ يقول:
هذه بغداد التي فاجأتني 
يا عودة للدار ما أقساها
وشخصياً، كنت أشتاق لزيارة بغداد، وتخيلتها في أشعار شاكر السياب ومحمد الجواهري وبلند الحيدري، وبقيت مسافة بين الحلم وتحقيقه حتى أتت اللحظة، فكان لقاء عاشق مع معشوقة لم يرها من قبل.
في مطار بغداد، تلحظ محبة العراقيين وشوقهم للسعوديين، وشعوراً عفوياً تلمسه في كل مكان ومع كل لقاء، والسؤال الذي يتكرر: «أينكم من زمان»، وهو سؤال يفتح ملفات كثيرة، ولكنها فعلاً الزيارة الأولى لوفد إعلامي سعودي منذ 28 سنة.
من فندق المنصور، الذي يطل على نهر دجلة، تأملت المكان، وتذكرت اسم هذا الفندق الذي كان يتكرر على مسامعنا منذ حرب الخليج الأولى؛ مدينة أخذ منها الدهر ما أخذ، ولكنها بقيت صامدة قوية. ربما شاخت ملامحها، ولكنها متجددة بشعبها. فالحياة في بغداد على غير ما يتخيله الكثيرون، فهي عادية والأماكن مكتظة. وعند زيارتنا لمنطقة المنصور، في وسط بغداد، كانت المطاعم والمقاهي مزدحمة. وفي جولتنا مع الزملاء في الوفد الإعلامي السعودي، الذي ترأسه الزميل خالد المالك، في منطقة المنصور، كان الناس يتحدثون معنا مباشرة، ويرحبون بتلقائية وكرم ضيافة؛ كانت فرصة للقاء المواطنين والإعلاميين العراقيين، وكذلك القيادات العراقية، وكانت الدعوة من مؤيد اللامي، نقيب الصحافيين العراقيين، وهي ربما واحدة من أنشط النقابات الصحافية وأقدمها في العالم العربي.
العراق اليوم إيقاع مختلف ورؤية جديدة؛ هناك قواسم مشتركة في الحديث بين كل السياسيين العراقيين، محورها أننا تعبنا من الحروب، ونريد أن نتفرغ للتنمية وبناء الإنسان. ويبدو أن هناك توجهاً لسياسة النأي بالنفس، فهناك شبه تفاهمات بين القيادات السياسية على أن الأولويات هي العراق والاستقرار. والإجراءات الأمنية ونقاط التفتيش في الشوارع واضحة، ولكنها توقف السيارات المشتبه بها، أو للتفتيش الدوري، ولكن الحركة طبيعية. تشعر أن هذا البلد انشغل بالحروب، فنسي التنمية، ولذلك يشكل العراق واحدة من أهم الدول للشركات الاستثمارية، نظراً لوجود فرص كثيرة ومغرية.
أربعة أيام في بغداد منحتنا الفرصة أن نطلع عن قرب على الواقع العراقي، ونسمع من صانعي القرار مباشرة، ونلتقي بالإعلاميين والمثقفين، وهي فرصة من الصعب أن يفوتها أي إعلامي. ولقد كان لنا لقاء مع رئيس الجمهورية العراقية فؤاد معصوم، ورئيس الوزراء حيدر العبادي، ورئيس مجلس النواب باسم الجبوري، ووزير الخارجية إبراهيم الجعفري، وقيادات سياسة ووزراء ومسؤولين. وربما كان توقيت الزيارة مهماً في حد ذاته لأنه يأتي قبل الانتخابات البرلمانية الحاسمة، في 12 مايو (أيار) المقبل، التي يقال إنها ستشكل وجه العراق الجديد للعقود المقبلة. ومن هذه الأجواء، كان هذا ملخص اللقاءات والانطباعات.

يعيش العراق الآن نشوة الانتصارات، وتشعر أن معنويات العراقيين ارتفعت، خصوصاً بعد هزيمتهم لـ«داعش»، وتحريرهم للأراضي العراقية، وكذلك بعد تأكيد وحدة أراضي العراق، ورفض الاستفتاء الكردي. وهناك رؤية سياسية جديدة ترى أن الأولوية هي للتنمية، وليس للسياسة. ويقولها صراحة فؤاد معصوم، رئيس الجمهورية العراقية: «لا نريد أن نكون جزءاً من الصراعات الإقليمية والدولية، وندرك أننا إذا دخلنا في الصراعات الإقليمية سنخسر». ويبدو أن هناك شعوراً بالمرارة من التجربة السابقة، إذ يقول إن العرب «انشغلوا عنا، وربما ظروفهم لم تسمح لهم بمساعدتنا»، ويستشهد بأن الدول الأجنبية هي التي فتحت السفارات في بغداد، بينما العرب تأخروا.
ويتفق هذا التصور مع رؤية حيدر العبادي، رئيس الوزراء، الذي يقول إن استراتيجينا تقوم على علاقات إيجابية مع الكل، ولن تكون لنا علاقات مع دولة على حساب أخرى، ويضيف: «المنطقة تحتاج إلى الهدوء والاستقرار ومزيد من الحوار».
ويبدو أن العراقيين تعبوا من الحروب، وهي التي رافقتهم عقوداً طويلة، ولذلك يقول الدكتور إبراهيم الجعفري، وزير الخارجية: «نحن جيل اكتوى بنار الحرب الأهلية، ولن نسمح بتكرارها».
ويرى العراقيون أنهم حققوا ثلاثة انتصارات استراتيجية ومفصلية، وهي التي ستنقلهم إلى دولة المواطنة التي يسعون لها، ويحددونها بـ: هزيمة الطائفية، والانتصار على الإرهاب، والتأكيد على وحدة العراق بعد فشل استقلال الأكراد. وبالنسبة للعراقيين، فقضية الطائفية حساسة، فالعراق عاني من حرب طائفية، والقتل على الهوية. ويتذكر العراقيون الحرب الأهلية (2006 – 2007) التي حصدت أرواح عشرات الألوف، ودمرت مناطق، وهجرت مئات الألوف من مناطقهم، ولذلك يتفق الكثيرون على أن أي مقاربة لوضع العراق لا بد أن تأخذ بعين الاعتبار التركيبة الطائفية والقومية.

والشعب العراقي يعاني من صعوبات، فرغم مرور 15 عاماً على إسقاط نظام الحكم السابق، فإن البعض يقول إن واقع العراق سيء، والوضع الاقتصادي صعب. وتقول تقديرات دولية إنّ ربع أطفال العراق يعيشون تحت خط الفقر، وإن البنية التحتية مدمرة، وهناك أكثر من 100 ألف منزل مدمر في محافظات نينوى وصلاح الدين.
ويتفاءل العراقيون بالمرحلة المقبلة، بعد انحسار الإرهاب وهزيمة «داعش»، بنقلة نوعية في مشاريع الإعمار والتنمية، وتابعوا المؤتمر الدولي لإعادة إعمار العراق الذي انعقد في الكويت، وبلغت تعهدات الدول المشاركة في مؤتمر الكويت لإعادة إعمار العراق نحو 30 مليار دولار. وستكون هذه المساعدات على شكل قروض وتسهيلات ائتمانية واستثمارات تقدم للعراق من أجل إعادة بناء ما دمرته الحرب. والحقيقة أن جولة داخل بغداد تكشف أن هناك احتياجاً لمشروع تنمية وتحديث للبنية الأساسية، في بلد أنهكته الحروب، ولكن أيضاً اختطفه الفساد. فهناك تقارير تتحدث عن فساد بنحو مئات المليارات من الدولارات، وهناك من يقدرها بنحو 24 مليار دولار منذ أن سقط النظام السابق.