FINANCIAL TIMES 

 ديفيد كيوهين من باريس ورالف أتكينز من لندن

يتذكر موظف سابق في مصنع للأسمنت تديره شركة لافارج الفرنسية في سورية، كيف أنهم "خرجوا فجأة. . . رأينا أشخاصا يرتدون سلاسل كبيرة، ويحملون بنادق كبيرة". 
كان ذلك في عام 2013، والبلد يزداد تورطاً في أتون حرب أهلية، وتسلمت الجماعات المسلحة بما في ذلك داعش المنطقة المحيطة بمصنع جلابيا.

وعلى الرغم من الوضع الفوضوي، أُبقي المصنع بالقرب من الحدود التركية مفتوحا. وقال الموظف الذي طلب عدم الكشف عن هويته إن الموظفين "أصبحوا بين نارين. إما أن أفقد عملي وحينها ماذا أفعل من دون المال، عائلتي بحاجة إلى المال، أو أن أواصل العمل ثم أُقتل".
المعضلة التي واجهها موظفو المصنع - والقرارات التي اتخذها المديرون الإقليميون لشركة لافارج في مقرها في باريس - قبل أن يتم إخلاء مصنع جلابيا في نهاية المطاف في أيلول (سبتمبر) 2014 عادت لتطارد الشركة التي اندمجت في عام 2015 مع شركة هولسيم السويسرية، لتصبح أكبر منتج للأسمنت في العالم.
يذكر أن شركة لافارج هولسيم تواجه عاصفة عامة في فرنسا بسبب اتهامات لها، بأنها ربما تكون قد مولت الإرهاب، وفي الوقت نفسه تضحي بسلامة عمالها.
في أواخر العام الماضي، بدأ ممثلو النائب العام الفرنسي تحقيقات رسمية مع ستة من موظفي شركة لافارج السابقين بشأن ادعاءات بتمويل الإرهاب، وتعريض حياة الآخرين للخطر. 
ومن بين هؤلاء الاشخاص إريك أولسن الذي كان الرئيس التنفيذي لشركة لافارج هولسيم إلى أن استقال في نيسان (أبريل) الماضي، وبرونو لافون الرئيس التنفيذي لشركة لافارج قبل الاندماج.
في قلب المعركة القانونية هناك تساؤلات حول أموال دفعتها شركة لافارج للإبقاء على مصنعها مفتوحا، في الوقت الذي اندلع فيه القتال بين الثوار وقوات النظام والجماعات الإرهابية، بما في ذلك داعش. 
السلطات الفرنسية تحقق في المدفوعات التي تمت، ومَن الذي كان يعرف عنها؟ وما إذا كانت العقوبات قد انتهكت؟ وما إذا كانت شركة لافارج نفسها يمكن أن تكون مسؤولة قانونا عن إهمال مسؤولياتها؟.
على نطاق أوسع، سلطت الفضيحة الضوء على مسؤوليات الشركات التي تعمل في المناطق الحربية أو البيئات غير المستقرة، حيث يتعين عليها أن توازن بين الأرباح والأحكام الأخلاقية والسياسية.
تقول ساندرا كوسار، رئيسة منظمة شيربا التي تتخذ من باريس مقرا لها، التي تدعم ضحايا الجرائم الاقتصادية، والتي رفعت دعوى ضد الشركة التي ساعدت على فتح التحقيق: "نحاول أن نبين أن الشركات لا يمكنها أن تدّعي الجهل، إذ أن لها مصلحة اقتصادية في مراعاة المخاطر، بحيث أنهم ينتهكون حقوق الإنسان في الخارج".
ساعدت شركة لافارج، التي تأسست في عام 1833، في بناء قناة السويس في مصر، وإعادة بناء مركز التجارة العالمي الأمريكي. وهي شركة في قلب المؤسسة التجارية الفرنسية. وشمل أحد مشاريعها المساعدة في إنشاء دائرة جديدة للفن الإسلامي ضمن متحف اللوفر في باريس.
أصبحت الفضيحة حالة اختبار في فرنسا لكيفية تعامل البلاد مع الشركات المهمة التي تتهم بالسلوك غير القانوني في الخارج.
قال ستيفان بابونوه وهو محام في باريس: "هناك شعور بأن فرنسا لم تكن معتادة في الماضي، أو ربما لا ترغب في ملاحقة هذه الأنواع من الجرائم - الفساد الدولي، وحالات التهرب الضريبي الكبيرة التي ترتكبها الشركات، وفي هذه الحالة التمويل المحتمل للإرهاب. 
أما الآن فتحاول فرنسا أن تظهر أنها يمكن أن تقاضي الجهات المتهمة في فرنسا لتفادي محاكمتها في الخارج".
شركة لافارج هولسيم حريصة على أن تضع هذه القضية وراء ظهرها. يقول بيت هِس، الذي تولى منصب رئيس مجلس إدارة المجموعة في أيار (مايو) 2016، لصحيفة فاينانشيال تايمز: "عندما سمعت لأول مرة عن هذه القضية، كنت أعرف أنه سيكون لها بعد أكبر". ويضيف: "التمويل المحتمل للإرهاب أمر ليس من السهل سماعه، ولهذا السبب أطلقنا تحقيقا فوريا ومستقلا".
استحوذت شركة لافارج على مصنع جلابيا في عام 2007 من شركة الأسمنت المصرية أوراسكوم و"من أجل سورية"، وهي شركة سورية يملكها فراس طلاس، رجل أعمال سوري بارز.
وصفت شركة لافارج هولسيم المصنع السوري بأنه "أحد المصادر الوحيدة للعمل المجدي للمجتمعات المحلية المحيطة"، الذي "يقدم الأسمنت للبنية التحتية والأعمال والطرق وما شابه ذلك لمختلف المجتمعات في جميع أنحاء سورية".
بدأت الاضطرابات في سورية في عام 2011 ضد نظام بشار الأسد، لكنها سرعان ما انحدرت إلى صراع يضم عدة جماعات مسلحة. استغل المتشددون الفوضى للاستيلاء على الأراضي، مع استيلاء "داعش" في مرحلة ما على نحو نصف سورية. كان المصنع على بعد نحو 89 كيلومترا من الرقة، معقل داعش السابق في سورية.
أطلقت شركة لافارج هولسيم تحقيقاتها الداخلية بمجرد ظهور الادعاءات لأول مرة في وسائل الإعلام الفرنسية في عام 2016. ووفقا للتقرير الداخلي الذي أعدته شركة المحاماة الأمريكية بيكر ماكنزي، الذي اطلعت عليه صحيفة فاينانشيال تايمز، فإن القضايا الأمنية كانت تشكل مخاطر مستمرة في سورية منذ عام 2012 فصاعدا، بما في ذلك عمليات الاختطاف وحواجز الطرق والابتزاز من جانب الجماعات المسلحة.
ولإبقاء المصنع قيد التشغيل، يقول التقرير إن الشركة كانت تشتري المواد الخام من موردين لهم علاقات أو في مناطق يسيطر عليها تنظيم داعش.
كما دفعت الشركة للجماعات المسلحة أموالا هي أشبه بالأتاوات من خلال وسيط – هو طلاس، الذي ظل أحد مساهمي الأقلية في شركة لافارج للأسمنت في سورية، قبل مصادرة أصوله من قبل النظام السوري في عام 2012 عقب انشقاقه.
وقد ساعد طلاس، ابن وزير دفاع سوري سابق وتتمتع عائلته بعلاقات وثيقة مع نظام الأسد، في توجيه خمسة ملايين دولار إلى الجماعات المسلحة من أجل السماح للمصنع بالعمل، وفقا للتقرير الداخلي. المحامون المشاركون في القضية أشاروا إلى أن الرقم قد يصل إلى 15 مليون دولار.
الأموال التي دفعها الشركة للجماعات المسلحة كان يتم تسجيلها في الدفاتر على أنها من أجل "العلاقات العامة وأمن المصنع". 
وفي بياناتها العامة، لم تقم شركة لافارج هولسيم بتحديد المجموعات التي تلقت المدفوعات، إلا أن تقرير التحقيق الداخلي أوضح أن الشركة السورية التابعة افترضت أن الأموال كانت تُدفع إلى الجماعات المسلحة، بما في ذلك منظمات إرهابية مثل داعش. ويقدر التقرير أن مبلغ نصف مليون دولار انتهى به المطاف في جيوب تنظيم داعش.
وغالبا ما كانت تتوقف الحياة العملية اليومية في المصنع تحت ضغط مجموعات مسلحة مختلفة. في إحدى الحالات، كما قال جيكوب وايرنيس، مدير المخاطر في فرع شركة لافارج في سورية حتى تشرين الأول (أكتوبر) 2013، لصحيفة فاينانشيال تايمز في العام الماضي، إن شركة لافارج دفعت 220 ألف يورو للإفراج عن تسعة موظفين اختطفوا في عام 2012.
عمال المصنع الذين قابلتهم صحيفة فاينانشيال تايمز أكدوا أنه كانت هناك عمليات اختطاف. وقال أحد الموظفين السوريين: "كنا نشغر فعلا بالقلق، وبصراحة كنا نقول في أنفسنا في ذلك الوقت، ما الذي يجعلنا نتحمل هذا الوضع الكريه ونبقى هنا؟."
منذ نهاية عام 2013 وحتى آب (أغسطس) 2014، وفقا لتقرير داخلي، كانت المفاوضات تتم من قبل طلاس مع الجماعات المسلحة، بما فيها تنظيما داعش وجبهة النصرة، فرع شبكة القاعدة في سورية، الذي يعرف الآن باسم جبهة فتح الشام، من أجل إبقاء المسارات اللوجستية مفتوحة وللسماح للموظفين بالوصول إلى المصنع. في تشرين الثاني (نوفمبر) 2013، وفقا للتقرير، كانت القائمة التي تشتمل على الجهات التي كان يُدفع لها المال تذكر "داعش". في تموز (يوليو) 2014، في الوقت الذي ساءت فيه الظروف حول المصنع، قال طلاس على ما يبدو لعدد من كبار التنفيذيين إنه بدأ المفاوضات مع ممثلين من تنظيم داعش في مدينة ما في الخليج، على أمل التوصل إلى "اتفاقية دائمة" تضمن أمن المصنع.
وفي آب (أغسطس) من السنة نفسها، توصل طلاس، كما يقول التقرير، إلى اتفاقية "مؤقتة" مع "داعش". لم نتمكن من الاتصال بطلاس، الذي خرج في الفترة الأخيرة من سجن خليجي، بعد أن قضى عقوبة مدتها أربعة أشهر بسبب تزوير الأختام والتواقيع على جواز سفره. 
تم إخلاء المصنع بالكامل في الشهر التالي، واستولت عليه مجموعة متشددة. ووفقا لادعاءات من محامين يمثلون الموظفين، فإن الموظفين المحليين الذين تُرِكوا في الموقع اضطروا للفرار دون الحصول على وعود من الشركة بمساعدتهم. وتم إخلاء الموظفين الأجانب في حزيران (يونيو) 2012. 
قال آرون لوند، وهو زميل لدى مؤسسة سنتشري في مقرها في نيويورك: "في عام 2011 أستطيع أن أفهم السبب في أن شركة لافارج بالتحديد وكثير من الشركات، بما فيها الشركات السورية بطبيعة الحال، كانت تظن أنها تستطيع أن تنجو مما كان يحدث في سورية.
بعد ذلك أخذ الوضع يزداد صعوبة باستمرار من حيث التشغيل في البلد، والشركات المذكورة قدمت مزيدا من التنازلات، ثم انتهى بها المطاف إلى أن عرّضت نفسها للشبهة." 
في آذار (مارس) الماضي، اعترفت الشركة أنه تم اتخاذ إجراءات "غير مقبولة" من أجل إبقاء المصنع دائرا، وأن المسؤولين عن المصنع ارتكبوا "أخطاء لا يستهان بها في الحكم". 
وقالت الشركة إنه على الرغم من أن الإجراءات الرامية إلى إبقاء المصنع مفتوحا "تم التحريض عليها" من قبل الإدارتين المحلية والإقليمية، إلا أن "أعضاء مختارين من إدارة المجموعة كانوا على علم بالظروف التي تشير إلى وقوع مخالفات لمعايير سلوك الأعمال المعمول بها لدى شركة لافارج". 
الأمر الذي يظل غامضاً هو ما الذي كان يعلمه بالضبط كبار التنفيذيين في شركة لافارج ومتى علموا به؟. هذه الأسئلة هي في جوهر القضية الفرنسية القانونية، التي يمكن أن تحدد كذلك ما إذا كانت الشركة نفسها – وليس الموظفين الذين تصرفوا دون رضا منهم – يمكن توجيه الاتهام إليها. 
لم تعلق المجموعة على دور لافون، لكنها قالت إن أولسن "لم يكن مسؤولا، أو كان مدركا لأي أخطاء تم التعرف عليها". 
في نيسان (أبريل) الماضي قال أولسن إنه سيتنحى من منصب الرئيس التنفيذي "لأني أعتقد أن رحيلي سيسهم في إعادة الهدوء إلى شركة تتعرض منذ أشهر لهذه القضية". 
قال هِس في مقابلة مع صحيفة فاينانشيال تايمز إن أولسن، الذي كان رئيساً لقسم الموارد البشرية في شركة لافارج منذ عام 2007 ورئيساً للعمليات منذ أيلول (سبتمبر) 2013 دون أن تكون لديه مسؤولية مباشرة عن أعمال الشركة في سورية، "أكد لنا في مناسبات كثيرة أنه ليس على علم بأي مدفوعات (إلى إرهابيين)". 
التقرير الداخلي لا يتوصل إلى أي نتائج قاطعة حول المسؤولية القانونية لموظفي شركة لافارج الخاضعين حاليا للتحقيق، بمن فيهم تنفيذيين سابقين. بدلا من ذلك، يفصل التقرير ادعاءات متعددة من قبل المديرين الإقليميين والتنفيذيين في باريس، بأنه كانوا يُطلِعون رؤساءهم حول ما كان يحدث في سورية، بمن فيهم لافون، الرئيس التنفيذي في ذلك الحين. وقالوا إن لافون كان يتلقى بشكل روتيني محاضر الاجتماعات من لجنة خاصة كانت تناقش بشكل منتظم الوضع في سورية، والأموال التي تُدفع لإبقاء المصنع عاملاً.
وفقا للتقرير، تم أيضا إطلاع لافون من قبل أحد كبار الموظفين، الذي يخضع للتحقيق في فرنسا، بشأن تأخير الإنتاج في المصنع في الوقت الذي كانت تتم فيه محاولة التوصل إلى اتفاقية مع تنظيم داعش. 
يذكر التقرير أن لافون، وهو أعلى مسؤول يجري التحقيق معه، نفى الادعاءات المختلفة من موظفين أدنى منه، ويقول إنه سمع أول مرة عن مدفوعات شركة لافارج إلى داعش في سورية، حين نُشرت في صحيفة لوموند الفرنسية في حزيران (يونيو) 2016. 
ووفقا للتقرير، قال لافون إنه نادرا ما كان يدقق في محاضر لجنة السلامة. (امتنع محامي لافون عن التعليق على هذا المقال.)
تود شركة لافارج هولسيم أن تترك هذا الفصل وراء ظهرها. جان جينيش، الذي تولى منصب الرئيس التنفيذي في أيلول (سبتمبر) الماضي، قال في مؤتمر صحافي عقد في الأسبوع الماضي لاستعراض النتائج السنوية: "أنا أكثر الأشخاص اهتماما بظهور الحقيقة إلى العلن، حتى نستطيع أن نقفل هذا الفصل، الذي نشعر بالأسف الشديد تجاهه." 
بخلاف رحيل أولسن ولافون، غادر أيضا عدد من الموظفين الآخرين – على الرغم من أن أشخاصا قريبين من الشركة يقولون إن العدد أقل من عشرة أشخاص. 
تصر الشركة على أنها بدأت في تطبيق أنظمة جديدة من أجل الحيلولة دون تكرار الموقف السوري، ومن أجل تعزيز إجراءات الالتزام وتقييم المخاطر. يقول هِس: "نحن شركة مختلفة لديها فرص رائعة، وإدارة جديدة، وأشخاص جدد".