ماجد كيالي

 تواجه القيادة الفلسطينية اليوم، في دعوتها لانعقاد المجلس الوطني (الدورة 22) عديد من الاستحقاقات، أولاها، انهيار عملية التسوية التي تأسّست على اتفاق أوسلو (1993)، وخيار المفاوضة، وأفول الرؤية التي تقوم على حل الدولة الفلسطينية المستقلة في الضفة والقطاع، ليس بسبب جزئية هذا الحل وهشاشته وإنما بسبب الرفض الإسرائيلي.

وثانيها، تلاشي مراهنتها على الولايات المتحدة باعتبارها راعياً نزيهاً ووسيطاً محايداً وضامناً موثوقاً لعملية السلام، المستمرة منذ قرابة ربع قرن، لا سيما أن إدارة ترامب أطاحت بكل القضايا التي كان يفترض التفاوض بشأنها مع إسرائيل، وهذا لا يتعلق بالقدس فقط، وإنما يشمل قضايا اللاجئين والمستوطنات والحدود أيضاً. وثالثها، غياب الحاضنة العربية الداعمة لكفاح الفلسطينيين، أو انحسار العمق العربي للقضية الفلسطينية، ومع اعتبار الأنظمة العربية بأن إيران هي التي تشكل خطراً داهماً عليها في المرحلة الحالية، لا سيما مع تدهور أحوال المشرق العربي من العراق إلى سورية (إضافة إلى لبنان واليمن). ورابعها، الشعور بتضعضع الفكرة القائمة على اعتبار أن قضية فلسطين هي القضية المركزية للأمة العربية، وأن الفلسطينيين يملكون مفتاح الحرب والسلام مع إسرائيل، إذ تبين كل ذلك عن مجرد أوهام أو ادعاءات للاستهلاك أو توظيفات سياسية لهذه القضية أو لقضية الصراع ضد إسرائيل.

الفكرة الأساسية هنا أن الفلسطينيين باتوا اليوم وحدهم، ربما أكثر من أي فترة مضت، لكن ذلك ليس، فحسب، في مواجهة إسرائيل، ما يذكّر بالصيحة الشهيرة والموجعة للزعيم الفلسطيني الراحل ياسر عرفات: «يا وحدنا»، إذ أنهم باتوا وحدهم، أيضاً، حتى إزاء التحديات التي تواجههم، إذا استثنينا الدعم المادي الذي يصل إلى موازنة السلطة، من هذه الدولة العربية أو تلك، لتمكينها من الوقوف على قدميها، إذ في ما خلا ذلك فإن مجمل الأنظمة العربية مشغولة بأوضاعها الداخلية، السياسية والاجتماعية والاقتصادية، ومشغولة بمواجهة إيران، ومشغولة بالتغيرات الحاصلة في النظام الدولي، وضمن ذلك تضعضع اعتماديتها في الاستقرار على الولايات المتحدة الأميركية.

وربما أن ما يفترض إدراكه، وتأكيده، هنا أن مشكلة القيادة الفلسطينية، في الظروف والمعطيات الراهنة، لا تتعلق، فقط، بـ «انقلاب» الموقف الأميركي، أو في انهيار الحاضنة العربية، أو في السياسة الإسرائيلية القائمة على تكريس واقع الاحتلال، عبر الاستيطان وتهويد القدس وبناء الجدار الفاصل ومصادرة الأراضي، وحصار غزة، وتعميق الهيمنة الأمنية، والتبعية الاقتصادية، في التجارة والمعابر وشبكة البني التحتية، إذ هي فوق كل ما تقدم، تتمثل، أيضاً، في النواحي الذاتية، المهمة، الآتية: أولاً، أن مواردها السياسية والبشرية والمادية محدودة، مع سيطرة إسرائيل على كل شيء، واعتمادية النظام الفلسطيني القائم (المنظمة والسلطة) على الشرعية الدولية والعربية والموارد المالية المتأتية من الدول المانحة أو الراعية لعملية السلام، وهي اعتمادية تفيد بتقييد الخيارات الفلسطينية وتصعيبها أو السيطرة عليها. ثانياً، أن هذه القيادة لم تحتاط لتغيرات الزمن وتقلبات السياسة بإيجاد خيارات سياسية بديلة أو موازية، بل إنها أصرت على حصر نفسها، لأكثر من أربعة عقود، في خيار وحيد هو إنشاء دولة فلسطينية مستقلة في الضفة والقطاع، وأنها رهنت ذلك، منذ ربع قرن باتفاق أوسلو، أي بالاعتماد على ما تقدمه إسرائيل من «تنازلات»، وعلى دعم الإدارات الأميركية لهذا الخيار، وكلها تكشفت عن إخفاقات أو عن توهمات. ثالثاً، أن الكيانات أو البني الفلسطينية السائدة (المنظمة والسلطة والفصائل والإطارات المنبثقة عنها)، باتت مستهلكة ومتقادمة ومتكلسة، وباتت تعيش أو تعيد إنتاجها على الواقع السائد، بمعنى أنه من المتعذّر، ومن غير المعقول، التعويل عليها لمواجهة التحديات الجديدة المطروحة، هذا دون الحديث عن إمكانية ممانعتها لأي خيارات جديدة قد تهدد وضعها، بالنظر لاستمرائها الواقع الذي اعتادت على العيش فيه. رابعاً، ثمة مشكلة تآكل الشرعية، فالحديث يدور عن انعقاد دورة جديدة للمجلس الوطني، أعلى هيئة تشريعية فلسطينية، في وقت باتت فيه تركيبة هذا المجلس تعاني من الشيخوخة، أي أن انعقاد اجتماع له يتطلب إعادة النظر في عضويته، وضمن ذلك شرعنة هذا الأمر، مع علمنا بأن هذا المجلس لم يعقد دورة اجتماعات له منذ العام 1996، أي منذ 22 عاماً، وأن معظم أعضائه أضحوا في الثمانينات أو فيما بعد السبعينيات (أطال الله في أعمارهم). هذا مع العلم أن مشكلة تآكل الشرعية تطال كيان السلطة ذاتها، التي لم تجر انتخابات لها، لتجديد شرعية الرئيس والمجلس التشريعي، منذ أكثر من عقد.

خامساً، المسألة الأهم بتقديري، التي يفترض أن يقف إزاءها المجلس الوطني، وكل الإطارات القيادية، تتعلق بإخفاق الخيارات النضالية التي تم انتهاجها طوال نصف قرن، وهذا لا يتوقف على إخفاق خيار المفاوضة أو التسوية، بالنحو الذي سارت عليه، ووفقاً للرؤية السياسية التي حكمتها، وإنما يشمل ذلك خيار المقاومة المسلحة، أيضاً، التي طبعت الحركة الوطنية الفلسطينية بطابعها، في الرؤى والبنية، منذ أكثر من نصف قرن، إذ أن هذا الخيار عدا عن ثبوت عقمه في الصراع ضد إسرائيل، في التجربة، فإنه أيضاً أضر بالفلسطينيين، وأعاق تطورهم السياسي، ناهيك عن انغلاق العوامل التي كانت تدفع إليه أو تشجعه عليه، إذ لم يعد بالإمكان القيام بأي عمل مسلح ضد إسرائيل لا من الخارج ولا من الداخل، وحتى الفصائل لم تعد تقوم بذلك، رغم عدم شجاعتها في الإعلان عن هذا الأمر، ما يفسر احتفائها بأي عمل فردي في الأراضي المحتلة، كطعن بالسكاكين أو غير ذلك، من ردود أفعال ضد الاحتلال.

هذه هي المشكلات الأساسية التي يفترض أن تقف القيادة الفلسطينية، وكل قوى العمل الوطني الفلسطيني، لمناقشتها بدون مواربة في الاجتماع المقبل للمجلس الوطني، مع التأكيد على عدم التخفيف من حدة المشكلات الأخرى، كمثل قضية الانقسام بين الضفة وغزة، والخلاف أو التنافس بين فتح وحماس، وتعدد الشرعيات الفلسطينية، المنظمة والسلطة والفصائل، بيد أن تلك هذه كلها هي بتقديري تحصيل حاصل للمشكلات التي تم ذكرها.

بيد أن كل ذلك لا يمنع من الحذر من المبالغة في التعويل على اجتماع المجلس الوطني، لأن منظمة التحرير تعاني أساساً من التهميش لصالح السلطة، ولأن الحركة الوطنية الفلسطينية فقدت طابعها كحركة تحرر وطني، بعد أن أضحت بمثابة سلطة في الضفة والقطاع، أي سلطة تحت سلطة الاحتلال، على حد قول الرئيس الفلسطيني محمود عباس في اجتماع المجلس المركزي الذي عقد أخيراً في رام الله. كذلك فإن التجربة تفيد بأن القيادة الفلسطينية، وفقاً لرؤاها وإدراكها لمحدودية قدراتها وخياراتها، لن تقوم بأي عمل من شأنه أحداث تغيير سياسي في الساحة الفلسطينية، إذ أن القرارات الصادرة عن اجتماعي المجلس المركزي (2015 و2018)، في شأن وقف التنسيق الأمني ووقف العمل وفقاً للملحق الاقتصادي لاتفاق أوسلو، وإعادة النظر بالاعتراف بإسرائيل، اعتبرت كلها بمثابة توصيات، بالنسبة للمنظمة والسلطة، ولا أحد يعرف من هي الجهة التي ستنفذ ذلك، أو إذا كان ثمة مستطاع لأي منها.

ليس القصد من هذا الكلام تثبيط الهمم، أو القول إنه ليس لدى الفلسطينيين ما يفعلونه، وإنما القصد الإشارة إلى مكامن الصعوبة التي تتعلق بقدرتهم على مواجهة التحديات التي تعترضهم، أو التي تتعلق بتغيير المعادلات السياسية، التي سادت منذ إقامة السلطة (1993).

بديهي أن هذه صورة لا تدعو إلى التفاؤل، باجتماع مجلس وطني أو من دونه، لكنها تحرّض على نبذ الأوهام، والكف عن اللف والدوران، وعلى البحث في الأسئلة المسكوت عنها في الصراع الإسرائيلي الدائر منذ سبعة عقود، وهذا موضوع بحث آخر.