رضوان السيد

انشغل ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان ثلاثة أيامٍ بمصر قبل المُضي إلى بريطانيا. ولا مفاضلة بين الرحلتين، فهما تسيران في خطٍ واحد، بل إنّ الرحلة الأميركية تتقدم أيضاً في الأفق ذاته. لكنْ بهذا المنظار فالذي أقصده أنّ التغيير يبدأ من الداخل السعودي والداخل العربي. ذلك أنّ الذي يميّز الحالتين السعودية والمصرية المسعى الهائل للتغيير الكبير الاقتصادي والتنموي، والانفتاح على العالم. 

والسعودي والمصري وهما يبنيان الشراكة الاستراتيجية بالمشروعات الكبرى في امتدادات «نيوم» (20 - 30)، قالا إنهما يريدان أن يكونا رافعة من جديدٍ لعملٍ عربي مشترك. وهذا يعني أنّ العمليات التغييرية في السنوات القليلة الماضية بالداخل وفي السياسات والعلاقات الخارجية، حقّقت ثلاثة أمور: استحداث نهوض اقتصادي تغييري يمضي عبر المشروعات الكبرى بالاتجاه المستقبلي، وإزالة الحصار الذي صنعه الإرهاب، كما صنعته الحرب الطويلة عليه، والتأسيس لسياسة مشتركة سعودية - مصرية - إماراتية، هي حكماً عربية، لأنها تتحرك لاستعادة الاستقرار في الجوار المضروب والمنتَهَك، كما أنها وهي تفعل ذلك تعيد تأسيس العمل العربي المشترك. 

والأمر الثالث: العودة بعد سنوات الاضطراب والفوضى في المشرق العربي وبعض المغارب، للتحدث إلى عوالم الدول الكبرى والمجتمع الدولي بلغة واحدة وهمٍّ واحد، هو هَمُّ الشراكة والندية واستحقاق الحقوق، والتشارك في صناعة الغد ومنجزاته.

طوال قرابة العقدين، كانت لدينا ثلاث مشكلات، ضيّعت معظم الجهود، وألهت عمّا سواها: الإرهاب (الإسلامي)، والحرب العالمية عليه، والتدخلات الإيرانية. وفي مقابل ذلك، ما كانت هناك مشروعات نهضوية كبرى، ولا سياسات عربية مشتركة تجاه القضايا العربية، ولا إرادات بارزة للتصدي للسياسات الدولية، ولا للتدخلات الإيرانية.

إنّ المشكلات المذكورة ما يزال معظمها موجوداً، وأُضيفت إليها وجوه الدمار في العراق وسوريا وليبيا واليمن. إنما هناك ثلاثة فروقٍ شديدة الأهمية؛ الأول أنّ المملكة العربية السعودية في عهد الملك سلمان بن عبد العزيز أسقطت عن كواهل العرب والمسلمين أعباء وتداعيات الحرب العالمية (الأميركية) على الإرهاب (الإسلامي)، فقد جاء الرئيس الأميركي إلى المملكة، وقابل رؤساء الدول العربية والإسلامية، وجرى الإعلان عن التشارُك في المسؤوليات والهموم، وتكون التحالف العسكري الإسلامي ضد الإرهاب، ومضى السعوديون والإماراتيون والأردنيون في الطليعة لمقاتلة الدواعش، وانطلق مركز «اعتدال» لنشر صورة أُخرى عن الإسلام في العالم انطلاقاً من مقولتي ولي العهد السعودي: إنّ عصاباتٍ من المتطرفين اختطفت الإسلام وعلينا نحن المعتدلين استعادته، وإنّ هذه الاستعادة تكون باتجاه إسلام الجماعة ما قبل العام 1979. وها هي رئيسة وزراء بريطانيا تذكر لولي العهد السعودي، كم كان التعاون مع المملكة مفيداً في إنقاذ أرواح مئات البريطانيين. وتقود مصر جبهة رئيسية ضدّ الإرهاب المحترف في سيناء، التي يخطط السعوديون والمصريون لتحويل شواطئها على البحر الأحمر إلى واحات تقدمٍ ورخاءٍ في مستقبلٍ قريب.

أما الفرق الثاني بين الأمس واليوم، فهو إعلان المملكة ودولة الإمارات عن سياساتٍ جديدة لمكافحة التدخلات الإيرانية في المنطقة العربية. ولذلك ساعدوا البحرين وتدخلوا إلى جانب الشرعية في اليمن وما يزالون، وأعلنوا التنظيمات الإيرانية المسلَّحة ومنها «حزب الله» تنظيماتٍ إرهابية، وتشاركوا مع المجتمع الدولي في مكافحة ومحاصرة موارد الإرهاب ومصادره الداعشي منه والإيراني. وإلى ذلك كان هناك التعاون مع مصر والسودان لمكافحة الإرهاب والميليشيات واستعادة الاستقرار في اليمن وليبيا. 

ولذلك هناك الآن، بل ومنذ مدة جبهات عسكرية وأمنية وسياسية تعيد بناء المنظومة الدفاعية العربية التي انتهكتها التدخلات الخارجية والإرهاب، والانقسامات الداخلية. وهذا أمرٌ يستطيع العرب المصابون والمهتمون بأمنهم ومستقبلهم التفكير فيه والتضامُنَ معه والانضمام إليه. نعم، هناك مشروعٌ دفاعي عربي تقوده المملكة، لكفّ التدخلات واستعادة الوحدة والاستقرار، والتأسيس لعملٍ عربي مشترك من جديد يعين على استعادة العافية. فكما فككت المملكة الحصار عن الإسلام في مؤتمر الرياض، وأزالت عن العرب والمسلمين أوضار الاستخذاء أمام الإرهاب؛ فإنّ عملها الدفاعي عن استقرار العرب واستقلالهم إلى جانب شقيقاتها يدخل في الأفق الحاضر والمستقبلي ذاته.

ويأتي الفرق الثالث بين الأمس واليوم، وهو الأفق النهضوي الكبير الاقتصادي والتنموي، وهو لا يجتذب عرباً آخرين، ودولاً كبرى ووسطى إلى دائرته فقط؛ بل إنه يعني تجديداً كبيراً في تجربة الدولة الوطنية العربية يضعُها في أُفق النجاح والازدهار. وهذا كله بعد الذي عانته خلال عقودٍ طويلة من وجوه فشلٍ أو ركود في دولٍ عربية رئيسية، وأُخرى ذات موارد ومصادر. المجتمع السعودي مجتمعٌ شابٌّ ومتعلم، ولديه طموحاتٌ هائلة، يتيح لها المشروع الكبير ذو الجوانب المتعددة، أن تتفتّح وأن تنطلق. ثم إنّ كل ذوي الكفايات من شباب مصر وغيرها يدخلون في السياق نفسه، سواء في مصر بآفاقها المتوسعة، أو في دول الخليج التي غمرها هذا الأفق النهضوي.

إنّ ما نقوله ليس خطاباً إنشائياً. فنحن وشبابنا بحاجة إلى نماذج ناجحة أو نهضوية للدولة الوطنية مثل المملكة ودولة الإمارات.
ما انتهت المشكلات، ولا تجاوزت بلداننا المشرقية الانكسارات التي تُعاني منها. لكنّ الفروق الثلاثة التي ذكرناها، والفرق أو الفارق الثالث بالذات، الذي تروده المملكة، فتقود النجاح الجديد والنهوض الجديد للدولة الوطنية العربية بعزائم الشباب وأحلامهم وحداثتهم، هي التي تُرجّح وخلال سنواتٍ قليلة الخروجَ من المأزق، وإعادة الانتظام في سياقاتٍ جديدة ضيّعها بعثيو سوريا والعراق، وزادتها تضييعاً التدخلات الميليشياوية الإيرانية!

لقد كان هناك أمران بارزان في زيارة ولي العهد السعودي لمصر، ركّزت عليهما وسائل الإعلام: المشروعات الكبيرة للتعاون الاقتصادي، واهتمام ولي العهد الفائق بزيارة الأزهر، والكاتدرائية المرقسية. وفي الأزهر والكاتدرائية كانت رسالة ولي العهد واحدة وهي: الاعتدال الديني، والوحدة الوطنية. وقد صار الأمران عَلَماً على سياسات المملكة في عهد الملك سلمان. فالأزهر هو أقدم مدارس التقليد الإسلامي العريق، والذي يتوحد حوله المصريون والعرب والمسلمون في ثوابتهم الدينية، وفي إنكارهم للتطرف والإرهاب، واعتبارهما انشقاقاً ومفارقة لصحيح الدين، ولجماعة المسلمين. وفي الوقت ذاته، هناك التعاوُن المشهود بين المؤسستين الدينيتين الكبيرتين في العالم العربي: السعودية والمصرية، فقد كان وزير الشؤون الإسلامية صالح آل الشيخ مع ولي العهد عندما زار شيخ الأزهر. وأعرف من المؤتمرات الدينية التي أحضرها بالأزهر والمملكة أنّ التعاون العلمي بين المؤسستين يتنامى بالتوازي مع تنامي التنسيق بين المملكة ومصر، لصالح العرب والمسلمين.